الشيخ محمد حسن زراقط
ربما يستطيع المرء اكتشاف أهمية بعض الليالي من خلال معرفته بالأحداث التي وقعت فيها؛ حيث إن الزمن يستمد حرمته وقداسته من الأحداث التي تقع فيه. والأمر نفسه يقال عن ليلة القدر. إلا أن الشريعة الإسلامية أوضحت لنا معاني ليلة القدر وأهميتها فأغنتنا عن تجشم عناء البحث والتنقيب والتحليل لمعرفة سبب حرمة هذه الليلة وكيفية الاحتفاء بها. وبالعودة إلى القرآن الكريم والحديث الشريف، نكتشف كثيراً من تفاصيل ما يتعلق بهذه الليلة.
* ليلة القدر في القرآن الكريم:
ذكر القرآن ليلة القدر في موضعين على الأقل، مرة ذُكِرت هذه الليلة صراحةً في سورة خاصة هي سورة القدر حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر: 1 5). وذكرت مرة أخرى في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 3 – 4). أما السورة الأولى فمن الواضح أن المراد منها ليلة القدر، لصراحة الآية في ذلك وذكر الله سبحانه بعض خصائص الليلة. وأما المورد الثاني، فإن المقصود منه ليلة القدر أيضاً، ويدل على ذلك:
أ- الصفة المشتركة بين الموردين؛ حيث إن الله سبحانه يتحدث عن القرآن الكريم في المورد الأول ويخبرنا أنه أنزله في ليلة القدر، ثم يتابع ذكر بعض خصائص الليلة التي سماها ليلة القدر. وفي المورد الثاني يحدثنا الله عن الكتاب المبين مقسماً به، ويخبرنا أيضاً أنه أنزله في ليلة مباركة يفرق فيها كل أمر حكيم.
ب - وورد بعض الروايات عن الأئمة عليهم السلام يدل على أن المراد من الليلة المباركة هو ليلة القدر، فهذا هو الشيخ الطبرسي يقول: "... والليلة المباركة هي ليلة القدر...، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام"(1). والرواية التي يشير إليها الشيخ الطبرسي هي قول الإمام الباقر عليه السلام عندما سأله أحد أصحابه عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾، قال: "نعم هي ليلة القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر، قال الله عزَّ وجلَّ: "فيها يفرق كل أمر حكيم" قال: يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، خير وشر، وطاعة ومعصية، ومولود، وأجل، أو رزق. فما قدر في تلك السنة وقضى، فهو المحتوم ولله عز وجل في المشيئة....".
* فضل ليلة القدر ووقتها:
لقد اتفق المسلمون على أن ليلة القدر هي في العشر الأواخر من شهر رمضان واختلفوا في تحديدها، فقال الإمامية إن ليلة القدر مرددة بين ثلاث ليال من العشر الأواخر من شهر رمضان، ورووا في ذلك روايات عن الأئمة عليهم السلام، منها الرواية التي ذكرت قبل قليل حيث يقول الإمام عليه السلام: "وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر...". ومن طرق أهل السنة وردت روايات عدة تدل على هذا المعنى منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله: "التمسوها في العشر الأواخر واطلبوها في كل وتر" وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "ليلة تسع عشرة من رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين"(2). وعلى أي حال إذا اتفق المسلمون على أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان واتفقوا على شيء كبير من مضمونها، فلا ضير كبيراً من اختلافهم على توقيتها. ولكن الأهم من ذلك هو محاولة فهم أسباب قداسة ليلة القدر وارتفاع شأنها عندهم. فإن لقيمة ليلة القدر أسباباً ومناشئ منها:
أ- نزول القرآن فيها، كما تؤكد سورة القدر والآيات الأولى من سورة الدخان، وقد مرت الإشارة إليها قبل قليل في هذه المقالة.
ب - إن ليلة القدر تمثل عند المسلمين مناسبة يقدر الله فيها كثيراً من الأمور التي تتعلق بالعباد. وهذه الخصوصية تستفاد أيضاً من القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾.
ت - ومن خصوصياتها مضاعفة ثواب الأعمال فيها، فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "...العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر"(3)
*خرافات حول ليلة القدر:
لم تسلم ليلة القدر من حياكة بعض القصص حولها مع اختلاف النوايا الدافعة إلى ذلك. وسوف نحاول في هذه المقالة الإشارة إلى بعض هذه الأفكار بشكل سريع:
- حول تعيين ليلة القدر:
- يدعي بعض الناس أن ليلة القدر هي ليلة ثلاثاء بشكل دائم في كل سنة، ويعتمد في ذلك على أن القرآن نزل ليلة الثلاثاء على رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذه الفكرة لا معنى لها عندما نتأمل في معنى الزمن ودورانه واختلافه من عام إلى عام. ولا معنى لتطابق التواريخ مع الأيام بشكل دائم. فما الفرق بين ليلة القدر وبين عيد الفطر أو الأضحى؟ فلماذا يكون عيد الفطر مرة يوم الخميس ومرة أخرى يوم الثلاثاء وهكذا وتكون ليلة القدر دائماً ليلة ثلاثاء؟! نعم لو لم تحدد ليلة القدر بتاريخ زمني، لكان ذلك ممكناً، كما ورد حول استحباب الصيام في الخميس الأول من كل شهر مثلاً، فهذا أمر ممكن أن نبحث عن الخميس الأول من الشهر، ولكن في ليلة القدر ورد تحديدها برقم خاص 19، أو 21، أو 23، أو 27 كما في بعض الروايات عن أهل السنة، وهذا التحديد لا يتناسب أبداً مع التحديد بيوم خاص من أيام الأسبوع مثل الثلاثاء أو غيره من الأيام.
- بعض الظواهر الكونية:
يروي بعض الناس في ليلة القدر أخباراً عن ظواهر كونية مختلفة، مثل رؤيتهم الشجر وكل شيء في حالة سجود لله، ومثل نزول نور من السماء إلى الأرض وتحول الليل إلى ما يشبه النهار. ويروون أيضا أن من يرى هذه المظاهر تفتح له أبواب السماء وتكون فرصة له للدعاء بما يريد حتى يستجيب الله له. وهذه الأمور أيضاً خرافات لا أصل شرعياً لها، بل هي مأخوذة من بعض الأديان والمذاهب غير الإسلامية، فإن سجود الشجر فكرة تشبه بعض الأفكار الموجودة عند المسيحيين حول عيد الغطاس. وبعيداً عن مصدر هذه الأفكار، فإن هذه الظواهر لو كانت صحيحة لوجب أن يراها جميع الناس وخاصة في ليلة القدر؛ حيث إن أكثر المسلمين يحيونها حتى الفجر، فلماذا يراها بعض الناس دون غيرهم؟ بل لماذا تتغير طبيعة الشجر مثلاً في هذه الليلة؟ فإن الشجر وغيره من مخلوقات الله في حالة طاعة مستمرة له سبحانه وهي تسبح بحمده ليل نهار، ولكن بأساليب مختلفة عن الأساليب التي نسبح فيها ونطيع. والإنسان وحده هو الذي يطيع الله مرة ويعصيه مرات، ويسجد مرة ويستكبر مرات. وأما الشجر، فإنه في حالة خضوع دائم لله وامتثال لإرادته، حتى لو بلغت أغصانه السحاب. وأما بعض الناس، فإنه يسجد عندما يكون تحت خط الفقر، وأما إذا صعد بعض الدرجات فوق هذا الخط، فإنه ينطبق عليه قول الله عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6 – 7).
- خصخصة ليلة القدر:
من الخرافات التي يتم تداولها بين بعض الناس حول ليلة القدر، اختصاصها ببعض الناس، وهم من رأوا تلك الظواهر المذكورة أعلاه. وهيهات أن يستطيع أحد حصر رحمة الله تعالى بشخص واحد أو أشخاص قلائل. نعم لو قيل: إن الله يستجيب دعاء عدد محدود من الناس لأنه عرفهم بإخلاصهم، فهذا أمر ممكن، وغيره لا يعدو كونه خرافة.
- ارتفاع ليلة القدر:
يبدو أن بعض الناس منذ زمن بعيد أراد رفع ليلة القدر من أذهان الناس، فروّج لخرافة مقتضاها أن ليلة القدر هي ليلة واحدة كانت في حياة النبي صلى الله عليه وآله ورفعت بعده. وربما تهدف هذه الدعاية إلى إبعاد المسلمين عن العبادة في هذه الليلة. وربما كانت الدوافع سياسية، فإن في الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله أن ليلة القدر خير من ألف شهر وهي مدة ملك بني أمية، وربما كان هذا السبب للترويج لارتفاعها. وقد واجه الأئمة عليهم السلام هذه الدعاية بمواقف وأحاديث كثيرة نقلت عنهم، منها ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام عندما يسأله أحدهم: أخبرني عن ليلة القدر كانت أو تكون في كل عام؟ فقال الإمام عليه السلام: "لو رفعت ليلة القدر، لرفع القرآن"(4).
خاتمة المطاف:
يمكن تلخيص ما تقدم بأن ليلة القدر ليلة تعم فيها رحمة الله جميع الناس، بل هي ليلة توزيع الرحمة وشمولها للناس إلى عام كامل. وهي ليلة نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله، وهي ليلة باقية بين ليالي السنة إلى يوم القيامة يوم يرث الله الأرض ومن عليها. وكل خصوصية أو صفة تذكر لليلة القدر ولا يكون مصدرها كتاب الله أو السنة الواردة عن المعصومين عليهم السلام هي خرافة ترد إلى قائلها، كائناً من كان.
(1) مجمع البيان، ج9، ص102.
(2) أحمد بن علي الجصاص، أحكام القرآن، ج3، ص640.
(3) انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج20، 334.
(4) الكليني، الكافي، ج4، ص158.