مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

منبر القادة: فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم

الشهيد السيد عباس الموسوي


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (القدر: 1 - 5) صدق الله العليّ العظيم.
إنَّ هذه الليلة، ليلة الثالث والعشرين، هي خاتمة ليالي القدر المباركة. وقد ذكرنا مراراً أن ليلة القدر هي ليلة واحدة في السنة، ولكنها مرددة بين ثلاث ليالٍ. وما يحصل في هذه الليلة المباركة أنّ الله تبارك وتعالى يقضي ويقدّر فيها ما سوف يحدث لسنة كاملة من أحداث فرديّة وجماعيّة، سواء أكانت خيراً أم شراً، حرباً أم سلماً.

*إشباع لروح الإنسان
ما معنى هذه الليلة؟ وما هي أهميتها؟
إنّ هذه الليلة بالإضافة إلى كونها تشكِّل المنطلق لتقدير الحوادث التي تحصل في العالم والكون عبر سنة بكاملها، تعمل على إشباع الجوع الروحيّ عند الإنسان، ولا نستطيع أن نستوعب ذلك إلّا إذا درسنا بشكل دقيق حاجات الإنسان الروحيَّة. فما هي هذه الحاجات الروحية للإنسان؟ وما هي متطلّبات النفس البشرية؟
إذا فهمنا هذه المتطلبات والحاجات لروح الإنسان ونفسه، نفهم أهمية هذه الليلة الكريمة والعظيمة، إذْ تمرُّ على الإنسان كما نعرف حوادث ومشاكل ومصائب ومصاعب، تملأ نفسه بالأحزان والآلام والمرارات، بحيث يتمنّى أن يعرف ولو شيئاً بسيطاً عن مستقبله، لعلَّه يدرك طبيعة استمرار معاناته، وإمكانية إبعادها عن روحه، ليتخلّص من ضغطها النفسي. وقد يُعبّر المرء عن هذه الحالة بتعابير منحرفة وغير طبيعية.

*ليلة رأس السنة والمستقبل
أنتم تعرفون جميعاً أن ليلة رأس السنة التي أصبح الاحتفال بها شبه عادة عالمية تشكِّل محطةً يحاول الإنسان من خلالها أن يعرف حظَّه عبر السنة بكاملها، فهل ستكون حياته المرتقبة خيّرة وإيجابية، أم أن مآسيه ومظلوميّته سوف تستمرّ؟ ويحاول هذا الإنسان - ولو من خلال هذه الليلة - أن يتعرّف إلى مستقبله لسنة كاملة، ويحدّد إجراءاته على رأس كل سنة لعلّه يعرف حظّه في السنة القادمة. وقد أخذ الإنسان يعبّر عن هذا الجوع الروحيّ، ولا سيما في أوروبا من خلال مسائل نعتبرها من السخافة بمكان. وقد يعتمد بعض الناس في الكثير من المسائل على التبصير والتنجيم، حتى يتعرَّف إلى مستقبله، فهل هو أبيض في هذه السنة أم أسود؟
ومهما كانت هذه التعابير، فهي تحكي عن حالة تعيش في عمق الإنسان، وكأنّها محاولة للإطلالة ولو جزئياً على المستقبل لعلّه يستشف منه شيئاً، أو يتعرّف إلى شيء من أحداثه. وقد حاول القرآن الكريم أن يسدّ هذا الجوع الروحيّ من خلال ليلة واقعية، فجعل هذه الليلة فرصةً يُقضى ويُقدّر فيها كل شيء.

*ليلة القدر
عندما يعرف الإنسان أنَّ هناك ليلة تتنـزّل فيها الملائكة لتأتمر وتقضي وتقدّر كل ما سيحصل عبر سنة بكاملها، ثم يعرف أنه يستطيع أن يتدخَّل في قرارها من خلال الدعاء والعبادة، فبالتأكيد سوف يرجو الله رجاءً حاراً، ويدعوه دعاء الملتمسين، لعلّه يستطيع أن يغيّر ما يُقضى ويقدّر له.
إنّنا نقرأ في مثل هذه الليلة الدعاء التالي: "اللهم اجعل فيما تقضي وتقدّر من الأمر المحتوم وفيما تفرق من الأمر الحكيم في ليلة القدر ومن القضاء الذي لا يُردّ ولا يُبدّل أن تكتبني..."1. نحن نطلب من الله طلبات معيّنة، وندعو الملائكة لتسجّل هذه الطلبات والحاجيات من أجل أن تتحقّق في السنة الآتية: "أن تكتبني من حجاج بيتك الحرام المبرور حجّهم، المشكور سعيهم، المغفور ذنوبهم، المكفّر عنهم سيئاتهم، واجعل فيما تقضي وتقدّر أن تطيل عمري وتوسّع عليّ في رزقي..."2.
ثم إنَّ آخر شيء يكتبونه عادة في الدعاء: "وتفعل بي كذا وكذا..."، ومعنى ذلك أن الإنسان يحدّد المسألة التي يُحبها ويُريد من الله تبارك وتعالى أن يحققها له. وانطلاقاً من ذلك، نلاحظ الجانب الروحي في حياة الإنسان، لعلّنا نتوجّه من خلاله إلى معرفة المستقبل والتحكّم بمعطياته.

*الدعاء يدفع البلاء
وأمّا الإنسان غير المؤمن، فهو يحاول أن يُعبّر عن الجوع الروحيّ تعبيراً منحرفاً. هو لا يستطيع أن يطمع بشيء، ولا يمكنه أن يطمئن إلى شيء، ولذلك يعيش هذا الإنسان حالة من اليأس تحصل لكثير من الناس، لأنه لم يقابل ضغطه النفسيّ بالأمل والرجاء في ربّه، وفي هذه الحالة تتحوّل حياة الإنسان إلى حالة يأس قاتلة، وتقود صاحبها دائماً إلى الانتحار للتخلّص من مأساته ويأسه. وأمّا الإنسان المتديّن الذي يخاف الله، فيعرف أنه عزيز عليه، وأن دعاءه يدفع القضاء والبلاء، وأنه يستطيع أن يغيّر المعطيات من خلال الدعاء في ليلة القدر، والبكاء بين يدي الباري عزَّ وجلّ.
فما بالنا إذا كانت الأمَّة بكاملها داعيةً الله؟ المسألة هنا أكبر مما نتصوّر، حيث تصل أصوات الملايين من الناس في ليلة من هذه الليالي الكريمة إلى السماء. الله تبارك وتعالى كريم وصف نفسه بالرحمة والحنان والعطف. فكيف عندما يرى الله تعالى دموع المؤمنين وهي تجري، والملايين منهم يدعونه ويتضرّعون إليه؟! إنّ الطلب يكون عزيزاً عند الله تعالى ولا يمكن إلّا أن يستجيب، ولذلك فإنّ الأمّة تستطيع من خلال هذه الليلة، إذا أرادت، أن تحييها إحياءً حقيقياً، وأن تقضي لنفسها وتقدِّر.

*الأمّة الداعية
وكما قضى الله تبارك وتعالى بأن يجعل دعاء المؤمن دافعاً للبلاء، ومغيّراً لكل سوء، فكيف بأمّةٍ كبيرة تدعو الله وترجوه؟! من هنا، يجب أن نفهم معنى أن ندعو الله دعاءً جماعياً، فالدعاء الجماعي هو استدرار لرحمة الله من الكبير، والصغير، والمرأة، والعاجز، والعجوز. نحن نؤمن بصلاة اسمها صلاة الاستسقاء. ألا تصل المسألة عندنا إلى حدّ القحط الكامل في حياتنا؟ فكم من مرّة كاد الناس أن يموتوا جوعاً وعطشاً لقلّة المطر والنبات، ولكنهم استطاعوا في جلسة جماعية واحدة أن يستدرّوا رحمة الله، فاستجاب لهم، وأنزل الغيث؟
يستطيع المؤمن من خلال هذه المستحبّات أن يُغيّر الموازين والمعادلات. إنَّ هذه الأمّة الإسلاميّة مضطرّة إلى مسائل كثيرة، ولذلك نحن بحاجة إلى مثل هذه الليالي العظيمة التي يقضي الله فيها ويقدّر كل أمرٍ حكيم، وكل شأن من شؤون الحياة.
اللهم اقضِ لنا، وقدّر لنا ولأمتنا الإسلامية النصر والرحمة والمغفرة، يا أرحم الراحمين.


* ألقيت في شهر رمضان: 12/6/1985م.
1- مصباح المتهجد، الطوسي، ص638.
2- م.ن

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع