الشيخ إسماعيل حريري
قال تعالى في كتابه العزيز ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ﴾ (البقرة: 185). وقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِين﴾ (الدخان: 3 5). الآية الأولى تصرّح بأنّ القرآن الكريم أُنزل في شهر رمضان، والآية الثانية (رقم 3) في سورة الدخان تصرّح بأنه أنزل في ليلة مباركة. ثم جاءت سورة القدر لتحدّد أكثر زمان نزول القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ (القدر: 1)، فثبت بذلك أنَّ ليلة القدر هي من ليالي شهر رمضان، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن وقد وصفها الله تعالى بالمباركة. وقد صرّحت الروايات الشريفة بذلك، ففي صحيح الفضلاء عن حمران أنَّه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ قال: "نعم، ليلة القدر، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينزل القرآن إلاَّ في ليلة القدر..."(1). ومن الواضح أنَّ هناك خصوصية لليلة القدر، فلتنظر إلى شيء من هذه الخصوصية ضمن التالي:
أولاً: وقوعها في شهر رمضان
إن هذه الليلة جعلت في شهر رمضان الذي هو أفضل الشهور عند الله تعالى، ولياليه أفضل الليالي، وأيامه أفضل الأيام كما ورد في خطبة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، حيث قال: "شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات..."(2). ولخصوصية هذا الزمان، اختاره الله تعالى على بقية الأزمنة، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "شهر رمضان غرّة الشهور، وقلب هذا الشهر ليلة القدر"(3). وفي كتاب المقتضب بإسناده عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: "إنّ الله اختار من الأيام الجمعة، ومن الشهور شهر رمضان، ومن الليالي ليلة القدر"(4). فتكون ليلة القدر قد جُعلت في أفضل الشهور، وفضّلت على سائر لياليه التي هي أفضل الليالي، فهي أفضل ليلة عند الله تعالى ما دامت السماوات والأرض. ثمَّ إنَّ تفضيل ليالي شهر رمضان على ليالي سائر الشهور لامتياز هذه الليالي عند الله تعالى، بما جعل في شهرها من البركات الكثيرة التي لا تعدُّ ولا تُحصى، إلى حدّ أن يعتبر أنَّ أنفاس الصائمين فيه تسبيح، ونومهم فيه عبادة، وعملهم فيه مقبول، ودعاءهم فيه مستجاب(5). وأيُّ شهر غير شهر الله تعالى يكون فيه أجرُ تلاوة آية من القرآن أجرَ من ختم القرآن في غيره؟! وتكون فيه أبواب الجنان مفتّحة، وأبواب النيران مغلقة، والشياطين مغلولة، ويكون ثواب الفرض فيه ثواب سبعين فريضة فيما سواه من الشهور؟!(6). وإذا كان الشهر كذلك، فكيف لا يكون أفضل الشهور، ولياليه وأيامه أفضل الليالي والأيَّام؟! وأما تفضيل ليلة القدر على ليالي شهر رمضان، فلأنَّ الله تعالى حباها دونها بأن أنزل فيها خاتم الكتب لخاتمة الرسالات، على صاحبها وآله آلاف التحية والصلوات. وجعل فيها من الفضل الكبير والثواب الخطير ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما سيأتي.
ثانياً: وقوعها في الليالي العشر الأواخر
جُعلت في العشر الأواخر من شهر رمضان من كلِّ سنة إلى يوم القيامة، كما صرّحت بذلك صحيحة الفضلاء المتقدمة عن أبي جعفر عليه السلام. وقد رُوي ذلك أيضاً عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله(7). وقد رُوي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد وضُربت له قبّة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه"(8). فقوله عليه السلام: "وشمّر المئزر"، كناية عن تشميره للعبادة بالجدّ والاجتهاد. وقوله عليه السلام: "وطوى فراشه" أي ترك المجامعة. وهذا يدلّ على أنَّ للعشر الأواخر خصوصية في العبادة والأعمال والجدّ والاجتهاد. ولعلَّ الاهتمام الزائد بإحياء العشر الأواخر ناشئ من أنَّ الإنسان بعد أنّ مَرَّت عليه كل تلك الليالي السابقة وهي تعادل ثلثي ليالي الشهر تقريباً، قد يصل إلى حالة الملل والخمول اتجاه العبادة، حيث يكون الصوم قد أخذ منه مأخذه، وصار يشعر بالضعف وخور القوى وفتور الهمّة، فتأتي تلك العشر الأواخر وما فيها من الحثّ على العبادة والطاعة وإحياء الليالي لتعطي دفعاً جديداً ومنشّطاً قوياً له، لينطلق من جديد وبقوّة نحو معبوده وخالقه، راجياً ثوابه وداعياً للأمن من عقابه. وتشتد همّته في خصوص الليالي التي يقوى فيها احتمال ليلة القدر التي ورد في أكثر من رواية أنها بين ليلة من ثلاث ليالٍ هي الليالي: تسع عشرة، وإحدى وعشرون، وثلاث وعشرون، بل في بعضها الترديد بين خصوص الليلتين الأخيرتين، فقد ورد في الموثق عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "التقدير في ليلة تسع عشرة، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين"(9).
وقد تقول: ما هو السرّ في إخفاء ليلة القدر في عدّة ليالٍ أو ليلتين على أقل تقدير؟ الجواب: إنّ الفائدة في إخفاء ليلة القدر أن يجتهد النَّاس في العبادة ويحيوا جميع الليالي طمعاً في إدراكها، كما أنّه سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمع (10). ويضاف إلى هذا أنّ الاستعداد لإحياء ليالٍ متعدّدة رغبةً في إصابة ليلة القدر مع ما في ذلك من التعب المترتّب على السهر والعبادة طوال الليل، يكون دليلاً على تمحّض العبد في طاعة مولاه والتقرّب منه، ونجاحه في التبعيّة المطلقة للمولى جلّ وعلا حيث أراد له ذلك.
* ثالثاً: القيمة المعنوية لليلة القدر
لماذا امتازت ليلة القدر عن سائر ليالي شهر رمضان، بل عن خصوص الليالي العشر الأواخر، بحيث جُعلت خيراً من ألف شهر؟ في إطلالة سريعة على ما في هذه الليلة، يتّضح ما لها من قيمة معنوية عالية ليست موجودة في غيرها، ويمكن تلخيصها في الأمور التالية:
الأول: إنّ القرآن أنزل في هذه الليلة، كما نصَّ على ذلك نفس القرآن الكريم، مضافاً للروايات الشريفة وقد تقدَّم بعضها سابقاً.
الثاني: أنه في هذه الليلة يقدّر الله تعالى كل شيء يكون في السنة إلى مثلها. فقد ورد في صحيح الفضلاء عن حمران، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: "قال الله عزّ وجلّ ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ (الدخان: 4) قال: يُقدَّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، خير وشرّ، وطاعة ومعصية، ومولود وأجلٍ أو رزق. فما قدِّر في تلك السنة وقضى، فهو المحتوم، ولله عزَّ وجلَّ فيه المشيئة..."(11). وممّا يقدَّر فيها المنايا والبلايا(12).
الثالث: وصفها بأنها خيرٌ من ألف شهر، وذلك لأنّ العمل الصالح فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، أي إنَّ عملاً صالحاً فيها ثوابه أفضل من الإتيان بهذا العمل في ألف شهر، أي ما يقارب الثلاثين ألف ليلة، فكَرَمُ الله تعالى الذي لا حدّ له يمنّ على العباد بأن يعطيهم لقاء عمل صالح في ليلة القدر ثواباً هو أكثر من ثواب عمل صالح في ثلاثين ألف ليلة، وهل بعد هذا الكرم كرمٌ، وبعد هذا الفضل فضلٌ؟! أمّا ما هو هذا الخير الذي أوجده في هذه الليلة لعباده، فهو أمرٌ متروكٌ له سبحانه وتعالى. ففي الحديث المتقدّم عن أبي جعفر عليه السلام قال: "قلت: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر﴾ أيَّ شيء عنى بذلك؟ فقال: العمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر؛ ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا، ولكنّ الله يضاعف لهم الحسنات (بحبّنا)".
الرابع: في علامتها، فقد روى محمد بن مسلم في الصحيح، عن أحدهما عليهما السلام أنّه سأله عن علامة ليلة القدر، فقال: علامتها أن تطيب ريحها، وإن كانت في برد دفئت، وإن كانت في حرٍّ بردت فطابت..."(13)
(1) الكافي،ج4، ص157، ح6.
(2) فضائل الأشهر الثلاثة، ص58، ح61.
(3) الكافي، ج4، ص65، ح1.
(4) بحار الأنوار، ج94، ص7، ح9.
(5) فضائل الأشهر الثلاثة، ص58، ح61
(6) المصدر السابق.
(7) بحار الأنوار، ج94، ص10.
(8) الكافي، ج4، ص175، باب الاعتكاف، ح1.
(9) الكافي، ج4، ص159/ ح9.
(10) راجع مجمع البيان، مجلد 6، ج30، ص195.
(11) الكافي، ج4، ص157، ح6.
(12) المصدر السابق، ص156، ح2.
(13) المصدر السابق، ص157، ح3.