أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

قضايا معاصرة: لاهوت التحرير

ثورة على اللاهوت الأصولي أم عودة إلى سماحة الدين؟

تحقيق: موسى حسين صفوان‏


تميز النصف الثاني من القرن العشرين وبخاصة العقدان الأخيران منه بعودة إلى الخطاب الديني. وبدا أن العالم أمام تراجع سريع للمشروع الثوري القائم على الإلحاد، وبالتالي تراجع مقولة: "الدين أفيون الشعوب" التي شكلت المادة الأساسية في ثورة الليبرالية على التحالف بين الرأسمالية واللاهوت الرسمي. وما لبثت أن حلّت مكانه مدرسة دينية ثورية عنوانها: (لاهوت التحرير) وبدأت الأقلام الثورية الناشطة تروج له على أنه: ثورة على الواقع الديني الرسمي. فما هو لاهوت التحرير؟ "لاهوت التحرير مدرسة لاهوتية مسيحية تركز على أن يسوع المسيح لم يكن فقط المخلّص، ولكن أيضاً محرر الشعوب التي ترزح تحت وطأة الظلم.

ظهرت هذه الحركة في النصف الثاني من القرن العشرين في الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية. وهي تعتقد بأن تطبيق الإيمان المسيحي يتم بمساعدة الفقراء والدفاع عن المظلومين وذلك بالتورط في السياسة والأعمال المدنية. ويعتقد لاهوت التحرير بأن الله يتحدث إلى البشرية عن طريق المعدمين، وبأن الكتاب المقدس لا يمكن فهمه إلا من منظور الفقراء. وترى هذه المدرسة أن الكنيسة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية تختلف بشكل جوهري عن نظيرتها في أوروبا لأنها كانت دائماً من ولأجل الطبقة الفقيرة.

وفي بداية الستينات تأسست جماعات عرفت باسم "جماعات الأساس communits de base " وهي عبارة عن مجموعات مسيحية محلية يتراوح عدد أفراد كل منها ما بين 10 و30 شخصاً، تقوم بوظيفتين أساسيتين:
الأولى: دراسة الكتاب المقدس، والثانية: تلبية الاحتياجات الملحة لأبناء الكنيسة، من طعام وماء وبنية تحتية... وقد تألفت تلك الجماعات في الغالب من الفقراء وانتشرت في مختلف أنحاء أميركا الجنوبية. وشكل ذلك حافزاً لرجال الكنيسة. وفي عام 1968م عقد مؤتمر لأساقفة أميركا اللاتينية في كولومبيا، حيث أصدر الأساقفة وثيقة تؤكد على حقوق الفقراء، وتنتقد الدول الصناعية التي اغتنت على حساب دول العالم الثالث. وقد كُتب النص الأساسي لهذه الحركة التي عرفت ب(لاهوت التحرير Teologia de la Liberation) عام 1971، بيد "غوستاف غتييرز" وهو قسّيس ولاهوتي من البيرو. وكان من أبرز وجوه هذه الحركة رئيس أساقفة السلفادور "أوسكار أرنولد روميرو" (اغتيل عام 1980)، واللاهوتي البرازيلي "ليو ناردو بوف" والأب اليسوعي "جون روبرينو" ورئيس الأساقفة "هيلدر كامارا" من البرازيل"(1).

واشتد بريق "لاهوت التحرير" في أميركا الجنوبية في فترة السبعينات. وبسبب تورطها في النضال السياسي لأجل المحرومين ضد هيمنة النخب الغنية انتُقدت الحركة بشدة من قبل "الفاتيكان" واعتبرها الكثير من الشخصيات الكاثوليكية امتداداً للماركسية في الكنيسة، واتهمت بالمدافعة عن توجهات الحركة اليسارية. وفي التسعينات حاولت الكنيسة بشخص البابا الحد من تأثير الحركة وذلك عن طريق تعيين أساقفة أكثر تحفظاً في البرازيل وفي دول القارة الأخرى(2).

* لاهوت التحرير بعيون عربية:
تقول (الدكتور نهلة الشهال): بدأ لاهوت التحرير عملياً من قبل رهبان مؤمنين وجدوا أن المشاكل الاجتماعية ناشئة عن الهيمنة الأمريكية، ورجال الدين الخاضعين للتراتبية الكنسية البابوية الذين يمارسون تخدير الفقراء ويطلبون منهم الصبر، ويباركون من ناحية أخرى المشاريع السياسية لدول الهيمنة المستغلة. فانطلق أولئك الرهبان ليعيشوا بين الفلاحين، وفي أحياء التنك التي يطلق عليها: (فافيلا) حيث يعيشون أشد أنواع الشقاء، وكذلك إلى الأحياء العشوائية وأحزمة البؤس. وما لبث هؤلاء الرهبان أن تمردوا على الكنيسة التي تفرض عليهم طقوساً خاصة وتطلب منهم تمييز أنفسهم عن عامة الشعب، وأنشأوا كنائس مستقلة عن الكنيسة البابوية تقوم برعاية الشعوب المقهورة وتكافح ضد التسلط الإمبريالي وهيمنة العولمة. وقد اعتمد هؤلاء الرهبان على تأويل النصوص، وأعادوا استحضار حياة المسيح وتواضعه ودفاعه عن الفقراء وتطهير الهيكل من التجار، وبدأوا بصياغة لاهوت يؤسس لنظرية اجتماعية، ويستقل عن الكنيسة البابوية في روما، فنشأت هناك كنائس شعبية تحترم المناضلين الثوريين(3)، فتعتبر أمثال تشي غيفارا صورة عن المسيح. ويقول فرنسوا هوتار (Franois Houtart)(4):

"تعرض لاهوت التحرير لقمع خاص، وكانت هذه النزعة نشأت في أميركا اللاتينية، ثم تجلت في أفريقيا، وخصوصاً في أوساط رجال الدين البروتستانت، وفي آسيا والهند، والفيليبين وفي كوريا الجنوبية. ومع أنه يفترض أن تكون مُثُل كل لاهوت نوعاً من التأمل في موضوع الله، إلا أنها انطلقت من وضع الفقراء والمضطهدين"، ويتابع: "إن هذا الفكر تجاوز إلى حدٍّ بعيد حقل الأخلاقية الاجتماعية، وهو حاول التعرف مجدداً إلى معنى شخصية المسيح (ع)، وقد كان لهذه الكنيسة حكم قاسٍ على كنيسة غالباً ما كانت متواطئة مع السلطات القمعية.

وجاءت ردّة فعل روما قاسية، واتهم هذا التيار بالماركسية...". ويذكر (نجيب الخنيزي)(5) أن نشأة "لاهوت التحرير" كانت في أميركا اللاتينية مطلع الستينات من خلال "الكنيسة القاعدية" التي تشكلت في موازاة تقاعس الكنيسة الكاثوليكية الرسمية الممالئة للأنظمة الديكتاتورية العميلة للولايات المتحدة الأميركية ولنظام الاستغلال الرأسمالي. وقد ركَّز لاهوت التحرير على التصدي للاهوت الهيمنة والأغنياء، والدفاع عن مصالح المسحوقين. ووصل الأمر إلى حمل السلاح مع الحركات الماركسية التي كانت تخوض حرب عصابات ضد الأنظمة الاستبدادية. وقد أعاد هؤلاء القساوسة تفسير وتأويل التوراة والإنجيل، وفقاً لمصالح المستضعفين، ورفضوا كل وصاية أو تفسيرات مقيدة للكنيسة.

ومنذ أن حققت المقاومة الإسلامية انتصارها التاريخي بتحرير معظم أراضي الجنوب اللبناني، وتطهيرها من العدوان الإسرائيلي، لم تنفك الأقلام الثورية المناهضة للعولمة والمشاريع الاستعمارية الإمبريالية، عن مقابلة نموذج حزب الله بنموذج لاهوت التحرير، الذي انطلق في مطلع الستينات من كنائس الفقراء والجائعين في أميركا اللاتينية ثم من أفريقيا السوداء. والحقيقة أن انتصار عام 2000م والصمود الأسطوري، والانتصار الإلهي عام 2006م، ليسا وحدهما السبب في انطلاقة تلك الأقلام الثورية الباحثة عن بصيص أمل بعد سقوط المشروع الاشتراكي السوفييتي. بل إن مناقبية حزب الله وممارسته السياسية والاجتماعية وانفتاحه على مختلف الأحزاب والحركات اليسارية والتي يتناقض معها ايديولوجياً، ويلتقي معها سياسياً، هو الذي شجع على مقارنة حزب الله بنموذج لاهوت التحرير.

ورغم أن الكثير من مثقفي اليسار يتخوفون من هذا التحالف مع حزب الله نشر الناشط اليساري (جيلبير الأشقر) إحدى عشرة موضوعة حول تجدد زخم الأصولية الإسلاموية(6) فقد اعتبر (د. جورج حجار) المناضل اليساري المعروف أن حركة حزب الله تمثل الانطلاقة الأممية الخامسة، واعتبر أن حزب الله حركة إسلامية العقيدة، ماركسية الممارسة(7). واعتبر الأستاذ (نجيب الخنيزي) في مقال له تحت عنوان: هل يدشن حزب الله لاهوت تحرير إسلامي(8)؟ أنه "إذا تمكن حزب الله في لبنان من المزاوجة ما بين المقاومة الوطنية المسلحة التي خرج منها منتصراً ضد الاحتلال، وبين النضال السلمي المدني المقترن بالتعايش والقبول والمشاركة مع الآخر على أساس برنامج مشترك، فإنه سيحدث اختراقاً حاسماً في الوضع العربي"، ثم يسأل: "وفي هذا الإطار، هل يمكن استحضار تجربة ومسار ما يعرف بلاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية والاستفادة من دروسها وخبرتها والعمل على تطويرها وبلورتها باتجاه ولادة لاهوت تحرير إسلامي"؟

ولعل أهم مطالعة بهذا الشأن، ما تبنته الناشطة المناهضة للعولمة (الدكتورة نهلة الشهَّال)، حيث تقول: "إن حزب الله لم يزل غير واع بما فيه الكفاية بأنه حركة لاهوت تحرير، لأنه الحركة الإسلامية الوحيدة التي تشارك في منتديات اجتماعية عالمية أوروبية". ولكنها تأخذ على حزب الله أنه "لا يملك برنامجاً للإصلاح الزراعي، ولا يملك سجلاً نضالياً في النقابات العمالية، ولا يملك نشاطاً تنويرياً يتفلت من قيد الهرمية (الكنسية)، على غرار آباء لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، ثم تعذره حيث لا يزال يشكل (ظاهرة فتية)، وبالتالي يمكن تأطيره وتوجيهه..."!. وما تقترحه الشهّال في هذا المجال على حزب الله هو "أن يعي أنه ليس حزباً لله عزَّ وجلَّ، بل حزباً (هكذا) للشعب ولمناهضة العولمة وكل ذلك في حدود عقيدته ب(ولاية الفقيه)"(9).

وبغض النظر عن دقة ما جاء على لسان الشهَّال ومن جاراها من المثقفين الثوريين، فإننا ندرك ببساطة حجم الآمال المعقودة على حركة حزب الله الاستنهاضية على مستوى الأمة، وبالتالي حجم الآمال المعقودة على قيادته في أن تجسد موقع الريادة في الساحة النضالية والممانعة، بعد الفراغ الذي تركته الوقائع المريرة على امتداد الساحة العربية والإسلامية، وليكون في الوقت نفسه نموذجاً صالحاً لحركات التحرر كافة في العالم. وخلاصة القول: إن هذا النهج الثوري الذي دفعته الضرورة، يؤشر إلى تصدر الثوريين الإلهيين عملية التحرير والمقاومة والممانعة بالاستناد إلى نصوص دينية وحقائق تاريخية متوفرة، سواء في الديانة المسيحية أو الإسلامية. ومن هنا، فإن الحديث عن لاهوت تحرير إسلامي، لا يتطلب منا إحداث ثورة مفاهيمية على التراث الإسلامي، بقدر حاجته إلى إعادة قراءة واعية لاستنباط الفكر الثوري في النصوص والوقائع والابتعاد عن المفاهيم الدخيلة على الدين، والتي أفاد منها علماء السلطان على مدى قرون.

وفي هذا المجال ينبغي على الثوريين الإسلاميين، من أجل أن ينهضوا بحركة ممانعة إسلامية تقوم على أساس اجتهادات فقهية ثورية، أن يعوا حجم المسؤولية الملقاة على عواتقهم، فيطوروا أساليبهم وشعاراتهم وممارساتهم لتكون بالمستوى المطلوب.
 



(1) الموسوعة الحرَّة، (ويكيبيديا Wikipedia): (لاهوت التحرير)، نقلاً عن الموسوعة البريطانية، تحت عنوان (لاهوت مسيحي) wikimedia.org-wiki-82.
(2) المصدر السابق.
(3) مكالمة عبر الهاتف، مع الكاتب.
(4) فرنسوا هوتار Fran
ois Houtart: مدير المركز القاري الثلاثي ومجلة Alternatives نقلاً عن: Monde diplomatique Juin 2002.
(5) جيلبير الأشقر: اخفاق المشروع التنويري في المنطقة العربية وشروط استنهاضه: السفير 16 6 2006.
(6) المصدر السابق، نقلاً أيضاً عن موقع (ويكيبيديا 7 ديسمبر 2007).
(7) مقابلة سابقة مع الكاتب: مجلة بقية الله، العدد 190، ص‏58 61.
(8) نجيب الخنيزي (كاتب سعودي)، نقلاً عن موقع (ويكيبيديا) بتاريخ 7 12 2007.
(9) وسام سعادة: نبقى مفترقين ويضربوننا سوية، مقال نشر في جريدة السفير، نقلاً عن موقع: "التجمع اليساري من أجل التغيير" 7 أكتوبر 2006م.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع