أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

الدين كسنّة إلهية.. قرآنية واجتماعية..ودوره في حياة الفرد والمجتمع‏

الشيخ شفيق جرادي(*)

 



لطالما ظلَّ معنى الدين من الأمور الغامضة والمحيِّرة لدى المتتبعين لهذه الكلمة "الدين"؛ لما لها من دلالات مفهومية. فلقد أثار الباحثون في الدين باعتباره ظاهرة واسعة أسئلة سعت لاستكشاف الإطار الاجتماعي الذي تصدق عليه تسمية "الدين". فهل الدين هو هنا الإطار الإنساني الذي يجتمع حول الإيمان بوحيٍ إلهي؟! أم أن كل جماعة ترتبط فيما بين بعضها البعض على أساس التمسك بالشعائر المقدسة، أو الطموح المقدس، أو المستقبل المقدس تُسمى ديناً، حتى لو كانت هذه الجماعة أو تلك هي كتلة لا تؤمن إلا بالدنيا ولا تعترف بكل ما هو إلهي وسماوي؟! أعتقد أننا في هذه العجالة من البحث، سنتعامل مع ما تعارف عليه الناس من أن الدين هو "الرسالة السماوية التي أنزلها الله سبحانه عبر الوحي إلى نبيٍّ من أنبيائه، ليخرجهم بها من ظلمات الجهالة إلى نور الهداية والصلاح في الدارين". بل وسنخصص البحث في ما ورد في القرآن الكريم من معنى الدين وتأثيره على الحياة.

* الدين في القرآن الكريم:
إن أول ما تتوجه به إلينا الآيات الكريمات هي الربط بين الدين من جهة والفطرة كما الاصطفاء الإلهي من جهة أخرى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (الروم: 30). ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ(آل عمران: 19). ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك (الشورى: 13). إذاً الفطرة هي تلك المكوِّنات الإنسانية الأولى، التي أودعها الله سبحانه في أصل خلقة الإنسان الروحية والنفسية، والتي بها ينزع الإنسان نزوعاً خالصاً نحو ربه سبحانه، بحيث إن مبدأ الطاعة وشوق التقرب من الله إنما ينبعان من هذه الفطرة، وهي بهذا المعنى تعني أصل أصول كل السنن الإنسانية والاجتماعية والحياتية، التي على الناس أن يمارسوا في حركتهم المعنوية والعملية قاعدة الالتزام بها والتقيد بحيثياتها، وهو الأمر الذي عبَّرت عنه الآية الكريمة ب﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً. فالوجه هو ما يستقبل به المرء أموره وشؤونه، وما يواجه به الوجود والكون والحياة. عليه، فإن الله سبحانه أمر الناس أن (يقيموا) وجوهم للدين التوحيدي الحنيف، مؤكداً أن ذلك أصل من أصول خلقتهم الرئيسية، التي قد يغفلون عنها. إلا أن الغفلة عن شي‏ء موجود، لا تُلغي أصل وجوده، بل هي تستتبع الجهل والقلق والاضطراب بسبب مثل هذه الغفلة، وهو ما أسماه القرآن بالنسيان الموجب لتدمير الذات ﴿كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ (الحشر: 19).

أما التذكر والذكر والهدى فهي من مستوجبات أو مستثيرات الارتباط بالله عبر فطرة الإنسان، مما يعني أن التفات الإنسان إلى أصل فطرته هو الذي يُسمى (بالإيمان)، إذ الإيمان هنا يعني سلامة العلاقة الفردية بين الإنسان وربه، من خلال تصالح هذا الإنسان مع نفسه في أصل وجودها، وحقيقة معناها. ومثل هذا الإيمان القائم على أسس الهداية الفردية، يستتبع سلوكاً وسيراً نحو الله سبحانه على طريق واحد هو "الصراط المستقيم". إلا أنه وقبل أن نقفل هذا البعد من المبحث ينبغي أن نشير إلى أن الإيمان بالدين يستدعي انتهاجاً للدين بما هو طاعة. والتعبير الأوضح لهذه الطاعة هو الذي أسماه القرآن الكريم ب"الإسلام"، والذي ورد فيه: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ (آل عمران: 19)، وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (النساء: 125). وهاتان الآيتان في الوقت الذي تظهران اصطفاء الله لدين الإسلام فإن الآية الثانية توضح أن الإسلام هو تسليم الوجه لله سبحانه عن طاعة وقناعة وخيار حر. لذا، جاء في محكم التنزيل: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 256) أي أن الطاعة والإيمان لا يكونان بالإكراه، بل بالإسلام بكل ما يعنيه من إرادة مختارة، وهذا غير الكلام حول اتباع الشريعة وقوانينها التي لا بد من التقيد بها، إذ الإيمان الناتج عن الإسلام بما هو طاعة لله فطر عليها الإنسان مسألة تخرج عن دائرة الإكراهات. أما الإسلام بما هو دين يمثل شريعة لحياة الجماعة الإنسانية، فإن فيه الحدود والقصاص والقضاء والفصل بين الناس، وهي تستدعي لضبط النظام العام جملة من الأمور التي تُبنى على أساس الإكراه، إذ في الفصل بين الناس لا يمكن تحصيل تمام الرضا للمتخاصمين، بل أن هناك أصولاً شرعية وعبادية قد لا يستسيغها الناس، وهي تخالف رغبتهم في الدعة والسلامة والأمان، وقد كتبت عليهم، وذلك مثل القتال في سبيل الله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (البقرة: 216). بناء على هذا المعنى، فإن فرعاً آخر يتولد عن الدين وهو "الشريعة" أو "نظام الملة"، فالدين يعني مع هذا التفريع الجديد، الطاعة والانقياد للشريعة.

* الدين والشريعة وحياة المجتمع:
أورد الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات): أن "الشرع نهج الطريق الواضح، والشرع مصدر، ثم أحدهما: ما سخَّر الله تعالى عليه كل إنسان من طريق يتحرَّاه مما يعود إلى مصالح العباد وعمارة البلاد، وذلك المشار إليه بقوله ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً (الزخرف: 32).

الثاني: ما قيَّض له من الدين وأمره به ليتحراه اختياراً ممَّا تختلف فيه الشرائع ويعترضه النسخ ودلَّ عليه قوله (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها)"(1). فالشريعة هي الأصول التي تضمن سلامة حركة الجماعة الإنسانية في سيرها نحو إعمار الأرض وبسط نظام العدل فيها. وبناء عليه، فما من دين يخلو بوجه من الوجوه، عن وجود شريعة عنده. وإذا ما كانت غاية الشريعة سلامة المجتمع في تفاصيل حياته، فالدين الذي يحمل شريعة متسعة على كل جوانب الحياة والعيش الإنساني هو الدين المصطفى: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم (الأنعام: 161). وميزة هذا الاهتمام باتباع شريعة الدين أنها توفِّر المناخات السليمة لحفظ الإيمان، بما هو علاقة الفرد بالله سبحانه وتعالى. ولهذا، تمَّ الفرز الموضوعي بين الجماعات على أساس من هذه الشريعة التي تحفظ الإيمان، كما أن الإيمان يحفظ فيها جذوة الإخلاص في اتباع أمر الله، ورفض أي تحريف ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (الكافرون: 1 6).

ولقد بيَّن القرآن الكريم أن هدف الخصم هو أن يفرِّق بين الدين وأهل الإيمان ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا (البقرة: 217). وحرَّض بالتالي على أخذ موقف عملي ونفسي منهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء. إلا أن ذلك لا يعني محاربتهم بمقدار ما يعني تحديد طبيعة الفرز بيننا وبينهم. أما مواجهة مواقفهم بشكل عملي، فهي خاضعة لطبيعة مواقفهم هم، فإن كانوا مسالمين، فالشريعة أقرب للسلام، أما إن كانوا محاربين أو من أهل الفتن والانقلابات ضد المسلمين، فالحرب معهم هي الخيار حينئذٍ، ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (الممتحنة: 8 9).

بناءً عليه، فإن الدين هو الأصل الذي بنيت عليه فطرة كل إنسان، وهو نظام يوم الموقف بين يدي الله في الآخرة ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّين (الفاتحة: 4) وهو الشريعة الحياتية التي بمقتاضاها يعمر الإيمان في النفوس ويعمم العمران في البلدان على أسس من العدالة والصلاح. لذا، فمن أجل هذا الدين تُقدَّم الأرواح والأنفس وكل ما يملكه الإنسان، إذ بدون الدين لا توجد إنسانية.


(*) مدير معهد المعارف الحكميَّة
(1) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، د.ت، ص 258.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع