آية اللَّه الشهيد مرتضى مطهري
أما الدرس الآخر الذي تتعلمه الأمة من الأمم الأخرى المتقدمة، فهو عندما تجعلها مرآة ومثالاً لأعمالها، لا بل ترى مصيرها مرتبطاً بشكل وثيق بمصير الأمم السابقة: لماذا أهلك اللَّه تعالى الأمة الفلانية؟ اللَّه تعالى ليس عدواً لأحد، إلا أن للَّه تعالى سنّة واضحة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11). يمكننا البحث عن السبب في هذا الأمر. فهل كان ظلمهم كبيراً؟ هل كانوا متفرقين مشتتين؟ هل تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل كانوا من الفاسدين أخلاقياً؟
* سياسة بني أمية: حفظ ظاهر الإسلام والقضاء على محتواه
عمل بنو أمية في صدر الإسلام على الحفاظ على ظاهر الدين، في وقت كانوا يقضون فيه على محتواه ومضمونه. منذ عصر بني أمية ارتفع الأذان أكثر مما كان معتاداً عليه زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبنيت مآذن كثيرة، وازدادت المجموعات التي تقصد حج بيت اللَّه الحرام بشكل ملحوظ، وأصبحت صفوف الجماعة في ذاك الزمان، أطول مما كانت عليه أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وشاعت المحافظة على حرمة شهر رمضان بشكل واضح في الظاهر. وبعبارة مختصرة، كانت الظواهر محفوظة، إلا أن لا خبر عن الروح والمعنى والحقيقة وذاك الاخلاص والتوحيد والعدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا مكانة عندهم للصفاء والأخلاق. وهذا يذكرنا بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "لُبس الإسلام لُبس الفرو مقلوباً"(1)؛ لباس الفرو يعطي الدفء والجمال، هذا إذا تمَّ ارتداؤه بشكل صحيح، نعم إذا ارتدي بشكل مقلوب وكان الصوف إلى الخارج، فلن يعطي الدفء على الإطلاق ناهيك عن قبح منظره.
ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام مشيراً إلى زمن بني أمية: "يُكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه"(2) فإذا كان الإناء مملوءاً بالماء ثم قُلب، فهل سيبقى فيه شيء من الماء؟ من يشاهد الإناء قد يعجبه منظره، إلا أنه لا قيمة له، حيث إن قيمته بمحتواه. ماذا فعل هؤلاء؟ كان الإمام الحسين عليه السلام يوضح مفاسد ومظالم بني أمية، وظهر في كلامه الشريف ما كانوا يفعلون. لقد مارس بنو أمية الظلم والتفرقة والاستئثار وتقسيم الناس إلى قسمين: المالك الذي يستأثر بكل شيء والمظلوم الذي لا يحظى بأي حق من حقوقه. بالإضافة إلى هذا، مارس بنو أمية أنواع الفساد الأخلاقي، حتى وصل الأمر إلى أن يتولى الأكثر فساداً إدارة أمور المجتمع. كان شرب الخمر والقمار والزنا يمارس بشكل علني.
* ثورة أهل المدينة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام
لم يدرك أهل ذاك الزمان واقع ما كان يجري مع الإمام الحسين عليه السلام في ثورته. ولعل ضعف الروابط والعلاقات، كان يمنع معرفتهم بما يجري. كانوا يظنون أن يزيدَ إنسان أيضاً أصبح خليفة. ولكن اختلف الحال في المدينة بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام، هذه المدينة التي تركت الإمام دون ناصر ولا معين(3) نراها في حالة هيجان: لماذا أصبح الحسين بن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً؟ هنا عادوا إلى أنفسهم وتذكروا الإمام الحسين عليه السلام وفضائله. سيطر عليهم الحزن لما جرى، فأرسلوا مجموعة من سبعة أو ثمانية أشخاص إلى الشام للتعرف على حقيقة ما حدث. بعد هذه المدة، تعرف هؤلاء على الأسباب الحقيقية التي ثار من أجلها الإمام الحسين عليه السلام. عند عودة هذه المجموعة إلى المدينة، كان الناس يسألونهم: ماذا وجدتم في الشام؟ وكانوا يجيبون: كنا في انتظار أن تمطر السماء حجارة علينا.
كان أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب الناس بأنه شاهد شخصاً يمارس المنكرات بشكل علني ولا يتورع عن شرب الخمر والزنا وملاعبة الكلاب والقردة، وهنا يدعو الناس إلى الثورة. وأدّت ثورة المدينة إلى مجازر ارتكبت بحق أهلها. كل ما قام به أهل المدينة كان يعود إلى ثورة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام. لقد اتضح لأهل المدينة حقيقة ما كان يريده الإمام الحسين عليه السلام وعلموا تقصيرهم في عدم الحركة معه. عند محاصرة المدينة في واقعة الحرة، خرج هذا الصحابي متقدماً على الجميع منادياً أبناءه أن هذا اليوم يوم الشهادة والتضحية في سبيل الإسلام. كان يخاطبهم عارفاً بأنه سيصبح شهيداً وسيلحقون به أيضاً، إلا أنه كان يتمنى أن يتقدموا ويضحوا، ليرى تضحيات أبنائه قبله في سبيل الإسلام. ثم إنه لحق بهم في الطريق ذاته. وهذا ما حصل فعلاً.
لقد أشار الإمام الحسين عليه السلام في كلماته إلى الأوضاع الموجودة، حيث الظلم والتفرق والتشتت وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "ألا ترون أن الحق لا يعمل به والباطل لا يتناهى عنه". وخاطب الناس قائلاً: "ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر". في هذه العبارة يعلن الإمام ماهية الثورة الحسينية: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"، حيث ترك الناس هذه الوظيفة، فتعهد الإمام بالقيام بها.
أراد الإمام عليه السلام أن يوصل صوت الإسلام إلى جميع أنحاء العالم من خلال مظلوميته وشهادته. أراد الإمام عليه السلام أن يكتب رسالته بدمائه. لو لم تترافق هذه الجُمَل مع التضحية في سبيل اللَّه، فهل كان التاريخ سيتمكن من حفظها حتى يومنا هذا؟ طبعاً لا. لقد قام الإمام الحسين عليه السلام بعمل أصبحت فيه لكل لحظة من حياته قيمتها وأهميتها الخاصة في التاريخ. لقد أصبحت لحظات وساعات وأيام الإمام ذات قيمة عالية للمجتمع الإنساني عبر التاريخ. أصبحت حياة الإمام مدرسة نتلقى فيها أعظم الدروس.
أصبحت عبادته درساً وحربه درساً. هدوؤه وصبره ورضاه وتوكله واعتماده على الله وقراءته للقرآن، كلها دروس يستفيد منها الجميع حتى الأعداء. لقد كانت عاشوراء أول أثر في ذاك العصر، حيث كانت أول ثورة روحية ضد الأعداء تمثلت في المرأة. لقد نهضت امرأة من قبيلة بكر بن وائل من بين الجميع وفي عصر يوم عاشوراء لتلتحق بركب الأسرى. هذه المرأة التي حملت عموداً وأخذت تصيح: يا آل بكر بن وائل! أتسلب بنات رسول اللَّه!؟... بعد هذه القضية كانت خطبة السيدة زينب سلام اللَّه عليها، حيث حركت المشاعر الداخلية وأدت إلى ثورة التوابين. وكانت بعدها عشرات الثورات الأخرى وما زالت حتى يومنا. هنا ثورة الحسين عليه السلام مصدر إلهام وحياة وعبَر للعالم الإسلامي.
صلى الإمام الحسين عليه السلام ظهر عاشوراء، ولكن أي صلاة كانت هي!؟ لقد كانت صلاة ملتهبة حسب قول أحد المستشرقين، حتى أن أحداً لم يصلِّ هكذا صلاة في حياته. صلى الإمام هذه الصلاة في وقت استشهد فيه أغلب الأصحاب. عند الزوال نهض الصحابي أبو ثمامة الصائدي قائلاً: يا أبا عبد اللَّه، لقد حان وقت الصلاة. كان يشتاق لتكون آخر صلاة له بإمامة الإمام الحسين عليه السلام. كان الإمام وأصحابه مستغرقين في صلاتهم، وكانت سهام الأعداء ونبالهم تمطرهم من كل حدب وصوب.
(*)(تنشر للمرة الأولى باللغة العربية / الحلقة الرابعة والأخيرة)
(1) نهج البلاغة، الخطبة 106.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 101.
(3) كان هناك بعض الأشخاص المعدودين الذين ساعدوا الإمام من أهل المدينة، حيث إن أهل المدينة لم يهبوا لمساعدته.