مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

كيف استُقبلت قافلة السبايا في المدينة؟

السيد حسين صولي‏

 



يروي لنا التاريخ وكتب السِّيَر أن من بقي من أهل البيت عليهم السلام بعد مسير طويل وشاق من كربلاء إلى الشام، عادوا إلى كربلاء. وكان جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة من بني هاشم ورجال آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد وردوا لزيارة الحسين عليه السلام، بعد أن أمر يزيد بردِّ السبايا إلى المدينة. فلما بلغوا العراق، قالوا للدليل: عرِّج بنا إلى كربلاء. وتقول الروايات: فبينما هم كذلك، وإذ بسواد قد طلع عليهم من ناحية الشام، فأرسل جابر عبده عطيِّة، فما أسرع أن عاد قائلاً لجابر: يا جابر، قم واستقبل حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذا زين العابدين قد جاء بعماته وأخواته. فقام جابر يمشي حافي القدمين، مكشوف الرأس، إلى أن دنا من الإمام زين العابدين عليه السلام، فقال الإمام عليه السلام: أنت جابر؟ فقال: نعم يا ابن رسول الله. فقال الإمام: يا جابر، ههنا والله قُتلت رجالنا، وذُبحت أطفالنا، وسُبيت نساؤنا، وحُرقت خيامنا.

وتقول بعض الروايات كما نقل ابن طاووس رضوان الله عليه : إنّ القافلة لما وصلت إلى موضع المصرع، وجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري وجماعة قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فَتَوافوا في وقت واحد، وتلاقوا بالبكاء والعويل، وأقاموا المآتم، واجتمع عليهم أهل ذلك السواد من الناس، وأقاموا على ذلك أياماً...


* بشر ينعى الحسين:
ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة. ولما صاروا قرب المدينة، توقفت القافلة وطلب الإمام زين العابدين عليه السلام من بشر بن حذلم الذي كان والده شاعراً أن يدخل المدينة وينعى الحسين عليه السلام. يقول بشر: ركبت فرسي وركضت، حتى دخلت المدينة وبلغت مسجد رسول الله ورفعت صوتي بالبكاء وأنشأت شعراً ناعياً بذلك الإمام الحسين عليه السلام قائلاً:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

 قُتل الحسين فأدمعي مدرار

 الجسم منه بكربلاء مضرَّج

والرأس منه على القناة يدار


دخل بشر منادياً: يا أهل المدينة، هذا علي بن الحسين عليهما السلام مع أهل بيته عليهم السلام قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرِّفكم مكانه. يقول الراوي: فما بقي في المدينة مخدَّرةٌ ولا محجبة، إلا برزن من خدورهن وهن يدعين بالويل والبثور. ولم يبق في المدينة أحد، إلا خرج وهم يصيحون بالبكاء، فلم أرَ باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أشد على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحينها، خيَّم الحزن على المدينة، وأقيمت المآتم الحسينية لقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

هذا الحدث الكبير والعظيم إن دل على شي‏ء، فإنما يدل على مكانة الحسين عليه السلام عند الله عزَّ وجلَّ وعند المسلمين. والتاريخ لم يستطع أن يخفي هذه الحادثة، فقد رواها بتفاصيلها. ولكنَّ يد الحكومات الجائرة تعمدت إخفاء معالم النهضة الحسينية خوفاً من ثورة الناس عليها؛ فقد حاولوا إخفاء هذه المجزرة البشعة، إلاّ أنّ الله عزَّ وجلَّ أبى إلاَّ أن تبقى حية إلى يوم يبعثون. والمقولة المشهورة تبين ذلك: إن الإسلام محمدي الحدوث، حسيني البقاء. وخير شاهد على ذلك ما نحن فيه.

* باب الفسطاط (الخيمة)
بعد نعي بشر، عاد الإمام عليه السلام، فوجد الناس تأتي من كل حدب وصوب. يقول بشر: حتى قربت من باب الخيمة وكان علي بن الحسين عليهما السلام داخلاً، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه وخلفه خادم معه كرسي، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك العبرة، حينها ارتفعت أصوات الناس بالبكاء، وأقبلوا من كل ناحية يعزونه، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة.

* الخطاب الإلهي للإمام زين العابدين عليه السلام:
بعدما تقدم، ذكر الإمام عليه السلام بعض التفاصيل حول ما جرى على أبيه الحسين وما جرى على عائلته من قتل وتشريد وسبي، مبيناً مظلومية أهل البيت، فتعالت الأصوات وحدثت ضجة عظيمة، فأومأ الإمام عليه السلام بيده أن اسكتوا. فسكتت ثورتهم، فقال: الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين بارئ الخلق أجمعين... وبعدها بدأ الإمام بذكر تفاصيل الحادثة المروعة، فقال: أيها القوم، إنّ الله ابتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله عليه السلام وعترته، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان... إلى أن قال: أيها الناس، أي قلب لا ينصدع لقتله!؟ أم أي فؤاد لا يحن إليه؟ ثم قال: أيها الناس، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار، من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أوجعها وأفجعها، نحتسب فيما أصابنا وما بلغ منَّا، إنه عزيز ذو انتقام.

ونرى الإمام عليه السلام يقول: إنا لله... أي إنه أراد أن يقول للناس: إن التسليم للقضاء المحتوم والأجل المبرم، وعدم التوسل إلى الباري تعالى في إزاحة العلة، لينالوا بالشهادة التي هي أشرف الموت الدرجة والمنازل العالية، التي لا تحصل إلاّ بهذا النوع من إزهاق النفس وجه من وجوه الرضى والتسليم. وبالجملة، إنهم عليهم السلام يدورون مدار ما علموه من الأقضية والأقدار وما اختاره لهم القادر القهار المختار. وعليه، إنّ ما صدر منهم في الحرب والجهاد والقتل في سبيل الدعوة الإلهية، والسكوت عما يفعله أئمة الضلال، ومشاهدتهم تمادي الأمة في الطغيان، وإقدامهم على ما فيه استئصال حياتهم المقدسة، طاعة لأوامر المولى عزَّ وجلَّ الخاصة بهم، وانقياداً لتكليفه بلا إيحاء من الله لهم في شي‏ء من ذلك، وإنما هم مختارون فيه لاختيار غيرهم جميع التكاليف.
ثم دخل الإمام زين العابدين عليه السلام إلى المدينة، فرآها موحشةً باكية، ووجد ديار أهله خالية تبكي أهلها وتندب سكانها.

* تأنيب الضمير:
فقام إليه صوحان بن صعصة بن صوحان العبري، وكان زمِناً لا مريضاً، واعتذر بما عنده من زمانة رجليه، فأجابه عليه السلام بقبول عذره وحسن الظن فيه، وشكر له وترحم على أبيه. ثم دخل زين العابدين عليه السلام المدينة، بأهله وعياله، وجاء إليه إبراهيم بن طلحة بن عبد الله، وقال: من الغالب؟ فقال عليه السلام: إذا دخل وقت الصلاة، فأذن وأقم، تعرف الغالب. وأما زينب عليها السلام، فأنشأت تقول:

مدينة جدنا لا تقبلينا
فبالحسرات والأحزان جينا

خرجنا منك بالأهلين جمعاً
رجعنا حاسرين مسلبينا


* أدوار نساء بني هاشم‏
أخذت زينب بنت أمير المؤمنين عليها السلام بعضادتي باب المسجد، وصاحت: يا جداه، إني ناعية إليك أخي الحسين عليه السلام. وصاحت سكينة: يا جداه، إليك المشتكى مما جرى علينا. فوالله، ما رأيت أقسى من يزيد، ولا رأيت كافراً ولا مشركاً أكثر منه ولا أجفى وأغلظ، فلقد كان يقرِّع ثغر أبي الحسين بمخصرته، وهو يقول: كيف رأيت الضرب يا حسين؟! وأقمن حرائر الرسالة المآتم على سيد الشهداء، ولبسن المسوح والسواد، نائحات الليل والنهار، والإمام السجاد يعمل لهن الطعام. وأما الرباب "زوجة الحسين عليه السلام"، فبكت على أبي عبد الله حتى جفت دموعها، فأعلمتها بعض جواريها بأن السويق "الحنطة" يُسيل الدمعة، فأمرت أن يُصنع لها السويق لاستدرار الدمع. وكان من رثائها في أبي عبد الله عليه السلام.

إن الذي كان نوراً يستضاء به‏
في كربلاء قتيل غير مدفون‏


وأما علي بن الحسين عليهما السلام، فانقطع عن الناس، انحيازاً عن الفتن، وتفرغاً للعبادة والبكاء على أبيه الحسين، وبقي على هذه الحالة إلى آخر عمره الشريف، ولم يزل باكياً ليله ونهاره، حتى خاف عليه بعض مواليه من الهلك، فأجاب الإمام عليه السلام: يا هذا، إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون، إن يعقوب عليه السلام كان نبياً، فغيب الله عنه واحداً من أولاده "يوسف عليه السلام"، وهو يعلم أنه حي؛ فبكى عليه حتى ابيضت عيناه من الحزن، فكيف لا يكون وقد قُتل أبي وإخوتي وعمومتي وصحبي ولا ينقضي حزني عليهم حسرات؟! وهكذا عاشت المدينة الحزن والغضب، حتى أعلنت ثورتها ورفضها للحكم الأموي بقيادة عبد الله بن حنظلة، ودفعت الثمن باهظاً بحب الحسين عليه السلام والولاء لأهل بيت عليهم السلام. وهذا على العكس تماماً مما حدث في دمشق عاصمة الخلافة الأموية، حيث قد أمر يزيد بتزيين المدينة وتسيير الراقصات في الشوارع، يرقصن على أنغام الطبول والدفوف. فإلى الله المشتكى وعليه المعول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.



اللهوف لابن طاووس، ص‏116.
أمالي الشيخ الطوسي، ص‏66.
رياض الأحزان، ص‏163.
البحار، ج‏10، ص‏235، نقلاً عن الكافي.
بشير بشر روايتان مختلفتان.
أعيان الشيعة.
مقتل الحسين للمقرم.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع