سماحة السيد حسن نصر الله
كيف يصبح الموت عندنا شهادة؟ كيف يمكن أن نأنس بالموت كالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان آنس بالموت من الطفل بثدي أمه؟ في الحقيقة هذا الموضوع بحاجة إلى عمل تربوي طويل، ولكنه غير صعب. وكمقدمة أساسية نقول: الشهادة هي ثمرة وحصيلة الجهاد، والتضحية والفداء، والعطاء، والجهد، أي القتال والقتل في سبيل الله. إذاً، الجهاد هو الذي يوصل للشهادة. يقول الإمام علي عليه السلام كما روي عنه: "إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه"(1).
من هذا الباب يتم العروج إلى الشهادة، ومن ثم إلى لقاء الله سبحانه وتعالى. هنا لا بد من إيضاح أمر مهم وهو: أنْ ليس كل الذين يذهبون إلى القتال يحملون روح الشهادة. في كثير من الحروب التي تحدث في العالم، لا يحمل المقاتلون روح الشهادة، بل يحملون روح البقاء على قيد الحياة والعودة بسلام. وكل واحد منهم يعتبر أنه إذا كان في الحرب أحد سيُقتل، فليس هو وإنما هناك شخص آخر غيره. ولذلك نجد في كثير من الأوقات من يهرب من الحرب، أو يستسلم أو يخون، لأنه لا يحمل روح الشهادة والثبات والصبر. ثم هناك من يذهب إلى القتال لأنه مجبر لسبب أو آخر. إذاً، ليس بمجرد أن يذهب الناس إلى القتال، يعطيهم ذلك عنوان روح الشهادة أو روح الاستشهاد.
أما عندنا، فالذين يذهبون إلى القتال، إنما يذهبون بوعي وإيمان وإخلاص وإرادة واختيار وعزم وشوق. وهؤلاء هم الذين يحملون روح الاستشهاد التي تستبطن حب لقاء الله سبحانه وتعالى. يقول الإمام عليٌّ عليه السلام كما ورد عنه: "وهُيِّجوا إلى الجهاد فولهوا"(2)؛ يعني عندما قيل لهم نريد أن نقاتل في سبيل الله، قاموا بوله، والوله ليس حباً عادياً، هو أعلى درجات الحب. في محل آخر، يقول الإمام علي عليه السلام لجماعته: "من الرائح إلى الله"؟ يعني إلى القتال، ولكن كيف؟ ليس رغماً عنه، أو من أجل أن يأخذ الغنائم، إذاً كيف؟ "كالظمآن يرد الماء"(3). تصوروا أن أحداً أصابه عطش شديد، ثم قدموا له الماء، أو حصل على الماء، كيف يهجم على الماء؟ بالتأكيد سوف يهجم عليه بحب وبشوق، وبوله، وبلذة، وبشغف.
* خطوات نحو الشهادة
من هنا الوصول إلى هذا الأمر يتطلب جهداً خاصاً على أكثر من صعيد:
أولاً: على الصعيد الإيماني والعقائدي، يجب على كل واحد منا أن يعمل على نفسه وعلى أهله وأولاده وجيرانه ومجتمعه، لكي يكون لديه ولديهم بالدرجة الأولى إيمان بالله عز وجل، وهذا هو مفتاح القضية؛ لأن الشهادة هي طريق إلى الله. إذا آمن بالله، وبصدق وعده، وبكرمه، وجوده، حينئذٍ يكون قد بدأ يتحضر ليسمو إلى هذا المستوى. ويجب أن يكون عنده إيمان باليوم الآخر. نعم، هناك حياة أخرى، عالم خالد أبدي وقبر وبرزخ، وحساب وعقاب، وميزان وثواب، وجنة ونار. يجب أن يكون عنده هذا الإيمان ويؤمن بما جاء به رسل الله، وكتب الله عز وجل. إذا أصبح عند أحدنا هذا الإيمان واليقين والمعرفة، سوف يتعلق بالآخرة ويرجوها ويسعى إليها وإلى لقاء الله سبحانه وتعالى.
هناك رواية تؤكد هذا المعنى؛ الرواية تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد، وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه، قد نحف جسمه، وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف أصبحت يا فلان؟ فقال: أصبحت يا رسول الله موقناً، فعجب رسول الله من قوله وقال له: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نُصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هذا عبد نوّر الله قلبه بالإيمان. ثم قال له: إلزم ما أنت عليه. فقال الشاب: أدعُ لي يا رسول الله أن أرزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستشهد بعد تسعة نفر، وكان هو العاشر(4). ما الذي أوصل هذا الشاب لأن يطلب الشهادة؟ بالتأكيد هذا الإيمان وهذا اليقين وهذا النور الذي في قلبه. إذاً طلب الشهادة حصيلة تربوية، والمطلوب أن نصل لهذا الإيمان.
ثانياً: وهو عامل تربوي أيضاً عدم التعلق بالدنيا؛ نقدر أن نربي أنفسنا على أن لا نحب الدنيا وزخارفها ومباهجها وألقابها وسمعتها ومالها وجاهها... الذي يتعلق بالدنيا لا يمكن أن يكون طالب شهادة. الذي يحب الدنيا لا يحب الآخرة. الذي يحب متع الدنيا لا يحب لقاء الله سبحانه وتعالى، لأنه لا يجتمع حبّان متناقضان في قلب إنسان، إذ يجب أن نربي أنفسنا وأهلينا على الزهد في الدنيا وزخارفها، والتعلق بالآخرة؛ لأنه هو الذي يوصلنا إلى روح الشهادة والاستشهاد.
ترى على مر الزمان أناساً تخلفوا عن الجهاد مع الأنبياء والأئمة، والسبب أنهم طلبوا الدنيا. الحسين عليه السلام لماذا تركه الناس؟ أليس طلباً وحباً للدنيا وخوفاً على بيوتهم وأولادهم وأموالهم؟ أو طمعاً ببعض المال والحطام والمناصب، التي وعدهم بها يزيد وعبيد الله بن زياد؟ هذا نص قرآني واضح: ﴿أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ (التوبة: 38). الذي يغتر بالحياة الدنيا ويتخلى عن الحياة الآخرة، لا يخرج إلى الجهاد ولا يصل إلى مقام الشهادة. والله سبحانه وتعالى يقول أيضاً: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ﴾ (النساء: 74). طلاب الشهادة هم الذين يبيعون دنياهم ويشترون بها الآخرة، بينما طلاب الدنيا لا يبيعون دنياهم. وطلاب الدنيا نوعان: نوع تركوا الآخرة من أجل دنياهم هم، ونوع تركوا الآخرة من أجل دنيا غيرهم، فلم يحصلوا على شيء من حطام الدنيا وخسروا الآخرة. إذاً، الأمر الثاني هو أن نربي أنفسنا على الزهد في الدنيا. لا يمكن لأحد أن يحب الدنيا، ويكون طالباً للشهادة.
ثالثاً: تعزيز الروح الجهادية، والتربية الجهادية، وتقوية مجموعة القيم الإنسانية في الإنسان، إذ يجب أن نربي أنفسنا على رفض الظلم والذل والهوان، وعدم الاستكانة وعدم الخضوع، لأن هذه كلها مفاهيم جهادية نحتاجها. تصوروا أحداً لا يبالي أنه ظُلم أو لم يظلم، شعبه مظلوم أو غير مظلوم، بلده ذليل أو غير ذليل، أمته مسحوقة أو غير مسحوقة. الظلم وعدم الظلم، العز وعدم العز، الكرامة والهوان بالنسبة له معانٍ لا تعني له شيئاً على الإطلاق. هل هذا ينطلق للجهاد؟ لا. هذه قيم نحتاج إلى تكريسها في أنفسنا وفي مجتمعنا: الكرامة، الحرية، الشرف، العرض، الرفعة لشعبنا ولأمتنا وديننا، أن لا نُستعبَد لأحد من طواغيت ومستكبري هذا العالم. ولذلك عندما نأتي للروايات نجدها تقول: "من قُتل دون ماله فهو شهيد، من قُتل دون أهله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد، من قتل دون حقه فهو شهيد، من قتل دون جاره فهو شهيد"(5).
إذاً، عندما تكون هذه القيم الإنسانية حية وفاعلة في نفوسنا، سننطلق للجهاد وتكون خاتمتنا الشهادة.
* مقام الوصال
هناك ملاحظة أود التطرق إليها: لا يتصورنّ أحد عندما نقول إنه يجب أن يكون عند كل منا إيمان بالله واليوم الآخر، وإيمان بالرسول وبوعد الله، وبما جاء به الوحي، وتعلق بالآخرة وزهد في الدنيا، وقيم إنسانية كالشرف والكرامة والشهامة والشجاعة إلى آخره لا يتصورن أحد أن هذا أمر صعب، لا، هذا الوضع يستطيع أن يصل إليه أي إنسان. سماحة الإمام الخامنئي يقول: يمكن لشاب مجاهد في الجبهات أن يصل إلى مقامات معنوية عالية ويُختم له بالوصال ولقاء الله وهو ابن الثماني عشرة سنة، قبل أن يصل بعض العارفين السالكين بعشرات السنين.. هذا الموضوع ممكن وقد حدث.
كيف يقتحم الإنسان على الموت بسيارة مليئة بالمتفجرات، ووجهه يمتلئ بشْراً وهو يبتسم إن لم يكن قد وصل إلى مقام ليس مقام كأني أرى الجنة، بل مقام إني أرى الجنة.. شهداء المقاومة الإسلامية وصلوا إلى هذا المقام وهم بأعمار السبع عشرة والثماني عشرة سنة والعشرين والخمس والعشرين... مسألة الإيمان بالله تعالى لا تحتاج إلى عمر، بل إلى صفاء وقليل من التوجه، لأن الإنسان بفطرته مشدود إلى الله، قال تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ (الأعراف: 172).
بقليل من التوجه، وقليل من إزالة الحجب وقليل من إزالة هذه الغشاوة التي تحيط بقلوبنا وعقولنا، سوف نكتشف "متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك"؟! ألم يقل هذا أبو عبد الله الحسين عليه السلام في دعاء عرفة؟ هل يحتاج الله إلى دليل؟ وهل هناك شيء أوضح من الله سبحانه وتعالى؟!
(*) مقتطف من محاضرة ألقيت في الليلة الثالثة من محرم الحرام سنة 1420ه (بتصرف).
(1) نهج البلاغة، الخطبة 27.
(2) نهج البلاغة، الخطبة 121.
(3) نهج البلاغة، الخطبة 124.
(4) الكافي، ج2، ص53.
(5) انظر كنز العمال، ج4، ص418 420.