أذكار | أذكار لطلب الرزق مع الإمام الخامنئي | سيّدة قمّ المقدّسة نور روح الله | الجهاد مذهب التشيّع‏* كيـف تولّى المهديّ عجل الله تعالى فرجه الإمامة صغيراً؟* أخلاقنا | الصلاة: ميعاد الذاكرين* مفاتيح الحياة | التسوّل طوق المذلَّة* الإمام الصادق عليه السلام يُبطل كيد الملحدين تسابيح جراح | بجراحي واسيتُ الأكبر عليه السلام  تربية | أطفال الحرب: صدمات وعلاج اعرف عدوك | ظاهرة الانتحار في الجيش الأميركيّ

السلام الدائم قرار إنساني

السلام الدائم قرار إنساني‏: قراءة في "مشروع السلام الدائم" للفيلسوف الألماني: "إيمانويل كانت" / (1724 1804)
موسى حسين صفوان‏


منذ أن وجد الإنسان على وجه هذه الأرض وجد الحربَ. ومن معاناة ويلات الحرب ولدت فكرة السلم، وكانت الشغل الشاغل للحكماء والفلاسفة عبر العصور، فقد دعا "الرواقيون"(*) الإنسانية إلى أن تحرر نفسها مما يفرق بين الإنسان وأخيه من فروق اللغات والأديان والأوطان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم أسرة واحدة يحكمها العقل والأخلاق(1). وتكررت دعوات الفلاسفة والحكماء للسلم وتحكيم العقل بدءاً من فلاسفة اليونان، والصين، والهند وصولاً إلى فلاسفة العرب والمسلمين، حيث تبلورت الدعوة إلى سلام إنساني شامل من خلال كتاب الفارابي "آراء أهل المدينة الفاضلة"، وما شابه ذلك. ويتميز هذا الكتاب الذي نشره "إيمانويل كانت" سنة 1795م بعنوان "مشروع السلام الدائم" بلغته التي تمزج بين آراء الفيلسوف العقلانية، ولغة السياسي البراغماتية.

ويعتبر كانت من أشهر فلاسفة العصور الحديثة الذين وضعوا العقل الإنساني موضع النقد الدقيق في ثلاثة كتب هي: "نقد العقل الخالص"، أي نقد مبادئ العلوم، و"نقد العقل العملي" أي نقد مبادئ الأخلاق، و"نقد ملكة الحكم" أي نقد مبادئ الذوق، وهو يعتبر من أكبر الفلاسفة الأخلاقيين. وله آراء طريفة في مسائل الحقوق الدولية وفي فلسفة التاريخ، وهو واضع الاصطلاح الألماني: "VOLKerbond" والذي يعني "عصبة الأمم" ويعتقد كانت أن إنشاء "حلف بين الشعوب" هو السبيل الوحيد للقضاء على شرور الحرب وويلاتها.

* المدنية والبداوة
ينظر كانت إلى الحرب على أنها قوة هائلة من قوى الطبيعة، وأن لها أثراً حضارياً على امتداد التاريخ، وأن لها جمالاً وروعة، في حين أن سلماً طويل الأمد قد يولِّد مع روح التكسب والتجارة نوعاً من الأنانية العامية الغليظة(2). وهذا لا يعني أن كانت من الدعاة إلى الحرب فقد أعلن في كتابه "فروض عن بداية تاريخ الإنسانية (سنة 1786) أن "أكبر شر يصيب الشعوب المتمدنة ناشئ عن الحرب، لا بمعنى الحرب الحاضرة أو الماضية، بل بمعنى دوام الاستعداد للحرب القادمة"(3)، وهو يعني بذلك "الخوف من الحرب" الذي يستنفد طاقات المجتمع. فإذا كان الخوف من الحرب ضرورة فطرية في أطوار المدينة البدائية أو في مرحلة البداوة فإن تطور البشرية وانتقالها إلى مرحلة التمدن تحتاج إلى ضوابط وشروط، "ذلك أن الإنسان مدني بطبعه، وهو دائماً عضو في مجتمع، فينبغي أن لا يكون ذلك المجتمع همجياً أو على بداوته، بل يجب أن ينظم تنظيماً يتيح لكل فرد أن يمارس حريته أو أن يحقق غايته الأخلاقية. وذلك المجهود لتحقيق تلك الغاية هو الحرية في صميمها، ومبادئ التشريع هي الكفيلة بهذا التنظيم".

* نظرية الحق‏
"يعتبر كانت أن الحق هو مجموع الشروط التي تلائم بين حريتنا وحرية الغير وفقاً لناموس شامل للحرية"(4). ومن هنا، انطلق كانت في مشروعه للسلام الدائم بين الشعوب، فمهما تخرج أمّة ما من حال البداوة مسترشدة بأحكام الحق والشرع، فإن حرية مواطنيها لن تكون مع ذلك بمأمن من كل خطر. فليس العالم أمّة واحدة، بل هو مجموعة من الأمم. وهذه الأمم المختلفة مهما تحولت من البداوة إلى المدنية في تشريعاتها الداخلية، فهي ما زالت على البداوة في علاقاتها بعضها ببعض، وما زالت تعتمد في معاهداتها سبل الإكراه والتغرير. وما معاهدات السلام التي تعقدها الدول فيما بينها سوى هدنة موقوتة، حيث تتحين كل دولة الفرصة المناسبة للإنقضاض على الدولة الأخرى. ومن هنا، فلا بد لكي يعم السلام الشامل والدائم من إنشاء "هيئة أمم قائمة على الحق والعدل، ويكون لها الإشراف على هذا المجتمع المدني القانوني الخاص الذي هو الأمّة المتمدنة".

فإذا كانت المعاهدات تضع حداً للحرب الراهنة، فإنها لا تلغي حالة الحرب الكامنة في النفوس. والعقل وهو المنبع الأعلى لكل تشريع أخلاقي ينكر أن تكون الحرب سبيلاً من سبل الحق، ويجعل من حالة السلم واجباً مباشراً. والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الواجب هي اقتلاع الداء من جذوره والاستعاضة في العلاقات الدولية كافة عن حالة الطبيعة (أي الفطرة العدوانية) إلى حالة الشريعة (أي تنظيم الأمم، وبعبارة أخرى: جمع شملها في تحالف سلمي). لقد صاغ كانت هذا المشروع في مواد محددة بسط فيها الشروط الضرورية التي تجعل الحروب أمراً ممكناً.

* مواد المشروع‏
لا يتسع هذا المقال لأكثر من عرض مواد مشروع كانت للسلام الدائم دون شرح:
المادة الأولى: إن معاهدة من معاهدات السلام لا تعد معاهدة إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة حرب جديدة.
المادة الثانية: إن أي دولة مستقلة صغيرة كانت أو كبيرة لا يجوز أن تملكها دولة أخرى بطريقة الميراث أو التبادل أو الشراء أو الهبة (ذلك أن الدولة كالشخص الذي له وحده حق التصرف بنفسه).
المادة الثالثة: يجب أن تلغى الجيوش الدائمة على مر الزمان، لأنها تهديد دائم للسلام...
المادة الرابعة: يجب أن لا تُعقد قروض وطنية من أجل المنازعات الخارجية للدولة، لأن هذه القروض فضلاً عن تيسيرها قيام الحرب تؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى الإفلاس.
المادة الخامسة: يحظر على كل دولة أن تتدخل بالقوة في نظام دولة أخرى أو في حكومتها.
المادة السادسة: لا يسمح لأي دولة في حالة حرب مع دولة أخرى أن ترتكب أعمالاً عدائية كالقتل والتسميم ونقض شروط التسليم... الخ فقد يكون من شأن تلك الأعمال عند عودة السلم تهديم أسباب الثقة بين الدولتين.
وفي ملاحق هذا النظام، ذكر كانت ما أطلق عليه المواد النهائية، وهي ذات علاقة بطبيعة النظام الديمقراطي، وحرية الدول في عقد تحالفاتها وحق النزيل الأجنبي، كما أشار في خاتمة مشروعه إلى الخلاف بين الأخلاق والسياسة وكيف يتم التوفيق بينهما(5).

* ملاحظات‏
ويحتاج هذا المشروع إلى المزيد من الدراسة والنقد، ولكننا نقف في هذه الصفحات عند النقاط التالية:
النقطة الأولى: افتقار هذا القانون إلى السلطة، حيث من المعروف أن أي قانون لا يمكن تنفيذه ما لم تقم سلطة تمتلك القوة لتنفيذه، فسلطة الدولة هي التي تضمن تنفيذ القوانين على سائر أبناء الشعب. أما بين الدول، فإن سلطة القوة هي التي تضع التوازنات. وفي ظل وجود دول قوية ودول ضعيفة، فإن الدول القوية لا تلبث أن تهيمن على الدول الضعيفة من خلال أحلاف تحت مسميات ودوافع مختلفة، وهذا ما جرى على أرض الواقع خلال القرنين الماضيين.
النقطة الثانية: لم يتطرق المشروع إلى البعد الديني، رغم أنه ألمح في العديد من عباراته إلى البعد الأخلاقي، ومعلوم أن قوة البعد الأخلاقي نابعة من الاعتقاد الديني، ما جعل كانت نفسه يعترف بضرورة وجود الخالق لأسباب أخلاقية.
النقطة الثالثة: لم يكن بحسبان كانت أنه سيأتي يوم يصار فيه إلى تشكيل عصبة الأمم، ومن ثم "جمعية الأمم" وأن هذه الجمعية ستؤسس مجلساً للأمن قائماً على الامتيازات المناقضة تماماً لمبادئه، فحق النقض ليس قائماً على أسس عقلية أو أخلاقية كسائر مبادئ كانت، بل هو قائم على أساس القوة.
وفي هذا عودة من جديد إلى الطبيعة أو الفطرة البدوية وبعد شاسع عن التمدن. وبهذا، أصبح مشروع السلام الدائم وسيلة من وسائل الهمجية البدائية للسيطرة على مقدرات الشعوب الضعيفة. وفي الختام، نحن فعلاً بحاجة لمشروع جديد للسلام العالمي الدائم قائم على أسس جديدة لا تنتمي، ربما، إلى مفردات الثقافة المادية المعاصرة، وتبحث عما هو أكثر تجذراً وعمقاً في النفس الإنسانية.
 



(*) الرواقيون: مدرسة فلسفية يونانية ظهرت بعد المدرسة المشّائية، تنزع نزعة مادية.
(1) راجع عثمان أمين "الفلسفة الرواقية"، القاهرة، 1945.
(2) كانت: "نقد ملكة الحكم" (سنة 1790).
(3) كانت: فروض عن بداية تاريخ الإنسانية (سنة 1786).
(4) راجع: كانت، "المبادئ الميتافيزيقية الأولى لنظرية الحق".
(5) راجع: إيمانويل كانت، ترجمة عثمان أمين: مشروع للسلام الدائم، منشورات السفير رقم 70 (سنة 2007م).

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع