نسرين إدريس
هل شعرتَ يوماً بأن شخصاً آخر يسكنُ داخلك؟! يُشاطرك أحاسيسكَ، وآلامك، وأفراحكَ التي لا يعرفها أحد؟ لا ريبَ إن وُجِدَ هذا (المارد) المقتحم لقمقم داخلك فهو سيكون إما صديقاً، أو أخاً، أو حبيباً، أو سمّه ما شئت، ولكنه أبداً لن يكون عدواً.. إنه "أحمد"، رفيق العمر حتى السادسة عشرة. لم أعرف يوماً أن أربط حبل القرابة بيننا بالسلالة التي تقولها أمي، أو "المختارة" كما أطلق عليها أهل القرية لمعرفتها القوية في الأنساب. أما أنا فكنتُ أكتفي بأن "أحمد" صديقي، وهو كذلك..
عندما أخذتُ طفلي الأول بين ذراعيّ وطبعتُ على جبهته القبلة الأولى، ابتسمت له وسميته "أحمد". وكان ذلك أكثر من شيء طبيعي بالنسبة للجميع، لأن أحداً لا يعرفُ بذلك القابعِ في زاويةٍ مظلمة في قلبي، وأني في الحقيقة، عندما لهجتُ باسمه لمعتْ بذاكرتي صورته؛ صديقي الأسمر وهو بعمر العشر سنوات، يشقُّ معي الوعر، غير عابئ بالأشواك التي طالما تركت بصمات حمراء على أرجلنا وأيدينا، وسمعتُ رنة ضحكته وهو يرمي الماء على وجهي في النهر، قبل أن نتسابق في السباحة حتى يستوطن التعب مفاصلنا، ونغفو ليلاً حتى قبل أن نُكملَ مضغَ لقمة الطعام وبلعها. وصراحةً كان هو أسرع مني في كل شيء؛ الركض، والسباحة، والنوم أيضاً.. مرت سنوات عديدة على فراقنا، وبقي ظله في حياتي.
لم أعرف سبب تفكيري به؛ فصورته ضيقت الخناق علي، حتى سلبتني الهواء من أمامي ذات مرة، عندما كنتُ أقوم بزرع عبوة ناسفة لأحد العملاء اللحديين على طريقٍ فرعي في قريتنا إبان الاحتلال. لقد رأيتُ بريقَ عينيه السوداوين بين الأسلاك، ولوهلةٍ سمعتُ صوت الانفجار، ومن بين الدخان رأيتُ وجهه الطفولي المغطى بالدماء، وكدتُ أبكي عليه، لولا جذبُ لحظة الحاضر لي من تيار بحرِ الوهم، فأكملتُ عملي بهدوءٍ وترقب وصوت صرصار الليل يعزفُ ألحانه على وتر الصمت.. أنا رجل مقاوم، وصديقي عميلٌ في جيش لحد. هذه الجملة تختصرُ معاناتي.. وهذا ما يجعلُ حنيني إلى الماضي يُشعرني بأني خائن للحاضر والمستقبل. كلانا اختار طريقاً مختلفاً، بعد أن تواعدنا على السير في الطريق ذاته؛ في عرزالٍ على سطح منزلنا قضينا فيه آخر صيف لنا سوياً في القرية، حيث خططنا للمستقبل بدقة، وكنا على مشارف العمر الذي يحتم علينا المغادرة، قبل أن تصلنا (دعوة) للالتحاق بالتجنيد الاجباري في جيش العملاء.
ومع اقتراب العام الدراسي، هُرّبنا إلى بيروت بحجة تخليص بعض المعاملات الرسمية.
فرشت بيروت شوارعها أمامنا لمدة ثلاث سنوات، كنا خلالها نحفر في الصخر لأجل لقمة العيش. فم الغربة يعضُّ على جراحنا، في زمن الحرب التي لا ترحم.. وعلى الرغم من كل المرارات التي تجرعناها، كانت المشاركة تخفف من زعافها عندما نضع رأسينا على وسادة الليل، ونستذكر الأيام الخوالي، ونرسم غدنا بريشة الحلم الزهري.. بدأنا نتعرف على بعض الرفاق في المسجد، حيث تعلمنا الإسلام الخميني، ورحنا نشارك في الأحاديث السياسية، فالعسكرية. ولكن لسبب جهلته، شعرتُ بأن أحمد كان يخفي شيئاً، وتوقعتُ كل شيء، إلا ما حصل.. تلقينا خبر وفاة والدته، وعلى عجلٍ، وعلى الرغم من الخطر المحدق به، حزم الحقائب وعاد إلى القرية.
انتظرته أسبوعاً بعد آخر، وشهراً بعد شهر، وعرفتُ فيما بعد أنه انخرط في جيش العميل لحد؛ ومنذ تلك اللحظة مات الانتظار بداخلي؛ وارتديت ثياب الجهاد، وكنتُ أدعو اللَّه دوماً أن يهديه سواء السبيل.. لم أفهم كيف يمكن لشاب مثل أحمد أن يخضع لذلك! لم أفهم كيف أن الغربة هزمته، وهو الشجاع إلى حدّ التهور! لم أنسَ ذلك النهار الطفولي عندما أوقدنا ناراً في زاوية حديقة منزلنا، لشيِّ عصفور صغير، كيف استعرت النيران ولسعتْ يدي تاركة أثراً عميقاً فيها، فسارع إلى خلع قميصه ولفها، وجذبي ناحيته دون أن يفكر للحظة بالأذى الذي يمكن أن يلحق به.. ربما لهذا كنتُ دوماً أشعر بالاطمئنان معه.. وجدتُ صعوبة بالتهرب من السؤال عنه بعد الهزيمة النكراء للجيش الصهيوني، والذل الذي وصم به هروب أذياله من جيش لحد. بعد يومين من قدومي إلى القرية مررتُ من أمام منزله. كان ولده الأسمر يقف على الشرفة، يحملُ نفس ملامحه، لكم وددت الاقتراب لأسلم عليه، ولكني هربت من هذا التفكير؛ وكررتُ في داخلي أن أحمد الذي أُحبّ مات منذ زمن..
عدتُ إلى بيروت وبقيت حوالي أسبوع مشغولاً لدرجة أني نسيتُ فيها القرية وأحمد وحتى ابنه؛ عندما فاجأني اتصال من رجلٍ لم أعرف منه طوال سنوات سوى صوته وأخبرني أنه ينتظرني في غرفة مسؤولي. أخيراً، إنه الرجل الغامض الذي كنت ألتقي به من وراء حجاب كحمام زاجل للمعلومات بين الداخل المحتل والمناطق المحررة. لم أرَ يوماً وجهه، ولم أجرب فعلَ ذلك، فلقاءاتنا كانت دوماً في دامس الليل، وإذا ما استبد نور البدر على الظلام، وقف خلف شجرة. ذلك الصوت رافقني لسنوات؛ والمرة الوحيدة التي اقترب مني فيها، عندما أُصبتُ أثناء عودتي من لقاءٍ معه. لم أفهم وقتها لماذا لحق بي والقذائف تفلح أرضاً لم تُنبت سوى الشهداء. كان يجب عليه الرحيل، ولكني شعرتُ به يربط جرحي، ويحملني على ظهره إلى أقرب نقطة يستطيع رفاقي الوصول إليها. وكان يُغشى عليَّ بين حين وآخر، ولكني في لحظة شعرت بأصابعه تلامس أثر الحرق في يدي. لم أصدق نفسي وأنا أتهيأ لملاقاة الرجل المقاوم المجهول، رأيته من الخلف يقف ودخان سيجارته يتطاير صوبي، كان (مسؤولنا) يبتسم وهو يستقبلني مادَّاً يده للسلام ونظراتي معلقة بالآخر الذي سألني : "كيف حالك"؛ وما أن أدار وجهه: كان أحمد ..