مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهادة حياة للشهيد وللأمة

السيد جواد نور الدين(*)

 



إن الحياة الأبدية مطلب فطري لكل إنسان، بل هي مطلب لكل مجتمع، فكل إنسان يحدّث نفسه بخلوده وعدم موته بل يأمل ويتعاطى أحياناً وكأنه لن يموت بالرغم من يقينه بالموت كما يعبّر الإمام الصادق عليه السلام: "لم يخلق الله عز وجلّ يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت"(1)، وهذا أحد الأدلة الفطرية التي يعتمدها البعض على وجود الآخرة. وكذلك الدول والمجتمعات فإنها تتعامل مع نفسها ومع بقية الشعوب آملة في أن تبقى قوية مزدهرة حيَّة مفعمة بالنضارة، بالرغم من معرفة علمائها وكبارها بالسنن التاريخية لنشوء الدول وصعودها وهبوطها.

* جوهر الحياة
لكلٍّ طريقته الخاصة في التعامل مع حياته والحفاظ عليها، والأقدر على إجادة ذلك هو من عرف جوهرها. وجوهر الحياة الإنسانية هو الإرادة. وهذه ميزة الإنسان عن بقية المخلوقات أنه يملك إرادة الاختيار ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: 2)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ (الرعد: 11)، "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً"(2)... إلى ما هنالك من آيات وروايات تؤكد هذا الجوهر. ولهذا يمكن للإنسان بإرادته واختياره أن يصل إلى الدرك الأدنى بين المخلوقات، كما يمكن له بإرادته واختياره أن يكون أرفع من الملائكة. وإن كان قوام الحياة وجوهرها الإرادة، فبمقدار ما يكون الإنسان صاحب عزم وإرادة بمقدار ما يكون حياً، من هنا يمكن فهم المعنى النسبي للحياة، إذ قد يكون امرؤ أكثر حياة (أو أقل) من آخر. وقد يصل به الأمر عملياً إلى أن يفقد حياته من حيث البعد العملي قبل أن تفارق روحه بدنه وقبل أن يرحل عن هذه البسيطة "ليس من مات واستراح بميت‏ إنما الميت ميت الأحياء"(3) وأكثر ما يكون الإنسان حياً عندما يكون له هدفٌ إلهي ولا تتزلزل إرادته ولا تهتز، ولا يخونه عزمه ولا يهون في سبيل تحقيق هذا الهدف حتى لو كلّفه ذلك بذل الروح وسيل الدم وهو أغلى ما يمكن أن يتصرف فيه بإرادته.

* الشهادة حياة للشهيد
إن الهدف الإلهي له بعدٌ ديني أي فيه حياة ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (الأنفال: 24)، والإرادة التي هي قوام الحياة إن كانت صلبة لا تكسر، فالهدف لا بد أن يتحقق ولو بعد حين. وهذه الحياة لا يمكن لها أن تقهر. وهكذا كان الشهيد أكثر الناس حياة. إذ إن لديه من الإرادة ما لا يمكن للدنيا المحدودة أن تستوعبه، فتحتاج إلى عالم أرحب تترجم نفسها فيه فتنطلق إلى بارئها مغادرةً هذا العالم. وبما أن الإرادة هي سبب الانتقال، أي قوام الحياة هو سبب الانتقال، فإن الشهيد لا يموت، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (آل عمران: 167).

وللتدليل على أنهم أحياء يؤكد الله تبارك وتعالى أنهم يرزقون، فالمرزوقية صفة المخلوق الحي. بل لعظمة الشهيد وعظمة الإرادة التي تخفق بين جنبيه قد لا يكون من الأدب الرفيع أن يقال عن الشهيد إنه مات، فقد نهى الله تبارك وتعالى عن ذلك ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (البقرة: 154)، وإن كنتم لا تشعرون بحياتهم بسبب نقص في حياتكم أنتم (أما السائر على نهج الشهيد، وله إرادة مثله فيراه حياً..). وهكذا كانت الشهادة حياة للشهيد، بل هي ترقٍّ من حياة في الدنيا إلى حياة أرحب وأرفع في عالم آخر مليئة بتفاصيل الحياة المتعارفة ﴿َأحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ... (آل عمران: 167 168).

ولأن الشهيد يرى في شهادته حياة له فهو يقدم على الموت بكل اندفاع وشوق واطمئنان "ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف"(4) هذا تعبير سيد الشهداء الإمام الحسين سلام الله تعالى عليه، عن شوقه للشهادة. وهكذا كان شهداء كربلاء في ليلة العاشر من المحرم يتسامرون ويتمازحون محتفلين لأنهم اقتربوا من الشهادة، وهذا حالهم يوم العاشر يتسابقون إلى منازلة الأعداء، فهم يتسابقون إلى الفوز بالحياة الكبرى ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (المطففين: 26)، ولهذا نرى الشهيد قبيل استشهاده يشعّ نوراً وفرحاً، لأنّ موت الشهادة بالنسبة له أعظم بشرى يمكن أن يتلقاها. ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ (آل عمران: 170). بل كان الموت مصدر أنسٍ لهم: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"(5) بل وأبعد من الأنس، فكما أن لبن الأم هو مصدر حياة الطفل، فإن الموت هو مصدر حياة للشهداء، وعلى رأسهم أبو الأحرار، مولاي أمير المؤمنين روحي فداه . وليس بعيداً عنا حال شهداء المقاومة الإسلامية، فهم يبحثون عن الشهادة بكل عزمٍ وإرادةٍ ولهفةٍ وشوق، يفتشون عنها في الوديان وعلى القمم، بين الأشجار، خلف الصخور مع نسيم الصيف وصقيع الشتاء، في الليالي والنهارات، وعلى مدى الأيام وأفق المدى، ولكلٍّ قصته الكربلائية، ولهم منطقهم الخاص الذي لا يعرفه إلا الشهداء أو المجاهدون على درب الشهادة مثلهم.

* الشهادة حياة للأمة
هذا المنطق والنهج الفكري لدى الشهيد، وإن لم يفهمه الآخرون، ولكنه يشعُّ عليهم فينير دربهم ويحول ظلماتهم إلى نور، لأنه أصبح لديه من الإرادة ما يفيض للتوزيع على بقية الناس الذين لم تكتمل إرادتهم بعد، وبهذه الإرادة التي فاضت من الشهيد وتلقفها المريدون يتوالد الشهداء والمجاهدون بنهج الشهادة، فكلما رحل شهيد أتى مكانه عشرات وأحياناً مئات (وأحياناً لا يحصى العدد) وهكذا فإن الشهادة التي هي حياة للشهيد، تصير حياة للأمة التي تقف في وجه كل ظلم وتتحدى كل طاغوت، لا يثنيها خوف ولا يكسرها بغي أو مكر حتى تحقيق الهدف الإلهي المنشود وهو ما يسمى بالانتصار. وبهذا المقياس فإن الحسين عليه السلام انتصر في كربلاء، فهو انتصار المظلوم على الظالم وانتصار الدم على السيف، وانتصار الإرادة على القهر وانتصار الحياة على الموت "الحياة في موتكم قاهرين، والموت في حياتكم مقهورين"(6)، ولأن كربلاء كانت حياة للأمة، وأهل البيت يدعون إلى الحياة ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ فإنهم أصروا وفي أصعب الظروف وشيعتهم من خلفهم على إقامة ذكرى عاشوراء وعلى زيارة كربلاء ولو كلف ذلك الشهداء والجرحى في سبيل الله.

وقد أصاب من قال: "إن الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء"، فبعد النهضة الكربلائية، قامت الثورات متوالية (ثورة التوابين، المدينة، المختار الثقفي،...) وصولاً إلى أيامنا حيث كانت الدولة الإسلامية إيران ثمرة من ثمرات شجرة الحياة التي زرعت في كربلاء وتكاثرت أغصانها ونبتت أوراقها حتى استظلت الشعوب الحية بها، وكذلك المقاومة الإسلامية. والشهيد الذي يرى نفسه يقتحم عالم الحياة الكبرى باقتحامه للموت، يمكن أن يرى أيضاً أنه يبث الحياة في أمته بشهادته عبر رؤيته لآثارها ببصيرته النورانية. وقد أدرك ذلك مولاي الحسين، سلام الله عليه "إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني"(7). وقد أدرك شيئاً من ذلك الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر عندما قال ما معناه: إنه إذا كان دمه يمكن أن يحرك شعب العراق للنهوض في وجه الطاغية فهو مستعد للشهادة. كما أدرك شيئاً منه بعض شهداء ومجاهدي المقاومة الإسلامية الذين كانوا ينظرون إلى قرية لم تحمل راية الجهاد بعد فيقولون إنها بحاجة لدم من أبنائها، وما إن يستشهد أحد أبنائها حتى تحصل على الشرف بالجهاد، وهو ما حصل فعلاً في أكثر من قرية في لبنان المقاوم. وأي شعب يصل إليه الآن قبس من نور المقاومة العابقة بعطر الشهادة يشعر أنه مفعم بالحياة وأنه عزيز. فكما أن حياة الإنسان قوامها الإرادة فإن حياة الأمة قوامها إرادة، فإن امتلكت العزم والإرادة وبذلت المهج في سبيل تحقيق الهدف الإلهي فهي أمة منتصرة، وهي أمة حية لا يمكن لها أن تموت. وهذا حال الأمة الأكمل عند ظهور مولانا بقية الله المهدي عجل الله فرجه فدولته العزيزة حصيلة قافلة الشهداء والمجاهدين منذ فجر التاريخ.


(*) مدير عام مؤسسة الشهيد لبنان.
(1) ميزان الحكمة، الفقرة 3718.
(2) نهج البلاغة.
(3) ميزان الحكمة، الفقرة رقم 3471.
(4) مقتل الحسين، المقرّم.
(5) نهج البلاغة.
(6) نهج البلاغة.
(7) مقتل الحسين، المقرّم.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع