الشيخ إسماعيل حريري
لا شكّ عند جميع الأمم والشعوب على مَرِّ التاريخ، لا سيما تلك الشعوب التي تقرّ بدينٍ سماوي وتتبع نبياً من أنبياء الله تعالى في الأصل، وإن شذّت في ما بعد عن الحق الذي جاءها به نبيّها، لا شك عند هؤلاء جميعاً في ما للتضحية، والفداء، وبذل النفس في سبيل الحق، وإقامة العدل من أهمية في حياتها ودنياها وسلوكها فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين الأمم الأخرى من جهة ثانية.
* تقديس الشهداء
فإنّ من يقدّم نفسه في سبيل ما يعتقده ويؤمن به هو إنسان بنظر قومه كبير وعظيم حيث قد ضحّى بنفسه لتحيا أمتُه بعزّة وكرامة وعنفوان، وهذا أمرٌ لا ينكره عاقل بعد أن توافقت آراء العقلاء على مرّ الأزمنة والعصور عليه. ولذلك نرى أنّ لهؤلاء الأشخاص بين أقوامهم وأممهم مكانة خاصة، فإذا ذكروهم عظّموهم وافتخروا بهم وترحّموا عليهم، ومن شدّة احترامهم وتقديسهم أن جعلوا يوماً خاصاً يحتفون فيه بأسمائهم وعلى شرفهم تكريماً لهم ولذكراهم وهو ما تعارفوا عليه بيوم الشهيد أو عيد الشهداء. فإننا لا نكاد نرى أمّة أو شعباً قديماً أو حديثاً إلا وله هكذا يوم وإن اختلفت التسميات أحياناً، فمنهم من يسمّيه بعيد الشهداء ويوم الشهيد وهو الغالب في عالمنا العربي والإسلامي، ومنهم من يسمّيه بيوم الجندي المجهول الذي يبذل نفسه في سبيل أمته وبلده. وقد يسمّى في أمم أخرى بغير ذلك مثل المضحّين والمقتولين في سبيل حرية بلدهم واستقلاله، ولكن كلها ترجع إلى فكرة واحدة وهي فكرة إحياء ذكر من ضحّى في سبيل عقيدته ودينه أو وطنه وبلده.
* الشهيد عند غير المسلمين:
بحسب التتبّع السريع لما عند غير المسلمين من غير العرب يلاحظ أنّ اصطلاح الشهيد قليل الاستعمال إن لم يكن نادراً، وإنما تعبيراتهم عن الأشخاص الذي يموتون في سبيل وطنهم وبلدهم وعقيدتهم يغلب عليها ألفاظ المضحّين والمقتولين في هذا السبيل. حتى بالنسبة إلى عقيدة النصارى بصلب المسيح عليه السلام وأنه قتل مصلوباً على خشبة، فإننا لا نرى التعبير عنه بالشهيد وإنما يعبّرون عنه بالفادي بل يعتبرون أنّ مجيء المسيح عليه السلام إلى هذا العالم هدفه أن يكون قرباناً يفتدي بنفسه الخطايا والآثام التي يرتكبها البشر(1).
نعم الوارد في إنجيل العبرانيين أن رسالة المسيح رسالة نبوّة حقيقية لا رسالة الفداء، فقتل المسيح استشهاد لا فداء، ولا يشكل الفداء محور رسالته(2). ويمكن القول إنه فيما بعد المسيح أضحى هذا الاصطلاح يأخذ مكانه في عقيدة المسيحيين فكانوا يذكرون عدّة من رجالهم في عداد الشهداء ومنهم على سبيل المثال: يوحنا المعمدان، واستفانوس المعروف بالشهيد الأوَّل عندهم، وجستن مارتر، وانتيباس، ويوستينوس، وجرجس المسيحي، فإنّ هؤلاء قد قضوا في طريق المدافعة عن الإيمان ونشر التعاليم التي يؤمنون بها(3). وقد ورد في أعمال 22:20: "ولقد كانت شهادة استفانوس المجيد حقّاً من أكبر عوامل النعمة لإعداد شاول (بولس) لكي يقبل المسيح"(4).وأطلقوا على مسيحيي الاضطهاد اسم الشهود ويريدون الشهداء كما نقل عن أحد كبارهم(5).
أقول: قد أطلت في ذكر ما تقدّم ليظهر أنّ غير المسلمين من غير العرب وإن كانوا يطلقون لفظ الشهيد على من يموت في سبيل الحق عندهم أو في سبيل قضايا بلده ووطنه، ولكنك في الواقع لا تجد في ما يذكرونه عن الشهداء أكثر من نظرة احترام وتقديس وإجلال لهؤلاء الأشخاص، فلا تجد الكلام عن مكانة الشهيد عند ربه، والأثر الذي يترتب على شهادته إنْ في محيطه الخاص أم في محيطه العام، وتحديد الثواب على ذلك، والدعاء للحصول على هذا المصير، ونحو ذلك مما يجعل الإنسان يقدم على التضحية بقلب مطمئن ونفس راضية، وثقة كبيرة بما يؤول إليه بعد الموت. بعبارة أخرى ما ينظر إليه هؤلاء في الشهادة هو ضمن دائرة الاحترام الدنيوي للشهيد ليس إلا. وهذا لا يختلف عند غير المسلمين من العرب، وإن كانوا أكثر تداولاً لهذه التسمية، وأكثر ارتباطاً بها من الغربيين مثلاً، وقد يرجع ذلك إلى تأثرّهم بالجو الإسلامي الذي يعيشون فيه، والذي أعطى للشهيد والشهادة معنىً كبيراً، بل جعل ثقافة الاستشهاد هي ثقافة الأمة التي تنشد الحياة العزيزة الكريمة، مع ما قدّمه من تراث أصيل من خلال الآيات والروايات الكثيرة التي تبيّن بشكل كبير ومؤثّر فضل الشهيد وكرامته وما يترتب على شهادته من بركات في الدنيا والآخرة كما سنعرض لذلك.
* الشهيد عند المسلمين:
إنّ الحديث عن مكانة الشهيد في الثقافة الإسلامية يتّسع ليكون كلاماً يلامس العقل والعاطفة، ويحاكي عالمي الغيب والشهادة. ولنا في تاريخنا الإسلامي من تأصيل لفكرة الشهادة والشهيد ما يغني عن إيراد دليل أو شاهد على ذلك ابتداءً من أوّل شهيدين في الإسلام ياسر وزوجته سميّة مروراً بآلاف الشهداء، وعلى رأسهم سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام. والقافلة مستمرة، والشهداء يتواصلون، ويتواصون بذلك من جيل إلى جيل، ومن زمان إلى زمان بكل عزيمة وفخر وعزّة. ففي سورة الحديد قال تعالى: ﴿وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ﴾ (الحديد: 19) فهذه الآية تشير إلى مكانة الشهيد عند الله تعالى في الآخرة. الشهيد الذي يسقط في دائرة رضا الله تعالى أجره على الله، ويفيض الله تعالى عليه نوراً يمتاز به عن كثير من الخلق. ولو نظرنا إلى ما ورد في حق الشهيد عند أهل وحي الله وخزنة علمه من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين لما كان لنا عن الشهادة بديلٌ، فمن ذلك:
أ -ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته"(6).
2- ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "فوق كل ذي برٍّ برٌّ حتى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برٌّ"(7).
بل كيف لا يشغف المسلم بالشهادة ويتمنّاها ويسعى إليها وقد تمنّاها ودعا لها الأنبياء والأئمة الأطهار عليهم السلام أجمعين، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لوددتُ أني أغزو في سبيل الله فأُقتل ثم أغزو فأقتل، ثمّ أغزو فأُقتل"(8). وهذا أمير المؤمنين عليه السلام في ختام كتابه للأشتر لمّا ولاّه مصر يقول:
"وأنا أسأل الله بسعة رحمته وعظيم قدرته على إعطاء كل رغبة... أن يختم لي ولك بالسعادة والشهادة"(9). وكيف لا يكون الشهيد في أعلى الدرجات دنيا وآخرة، وهذا سبط رسول الله أبو عبد الله الحسين عليه السلام قد أعدّ الله له درجة لا ينالها إلا بالشهادة، كما ورد في كتب السير والمقاتل أنه عليه السلام لما أراد الخروج من مدينة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله مكرهاً توجّه لوداع جدّه صلى الله عليه وآله فغفا على القبر الشريف فرأى جدّه صلى الله عليه وآله في كتيبة من الملائكة فكان مما قاله له: "... حبيبي يا حسين إنّ أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ وهم مشتاقون إليك، وإنّ لك في الجنان لدرجات لا تنالها إلاَّ بالشهادة"(10). بل إن الشهادة في سبيل الله وعلى طريق الحق وحفظ الدين لهي كرامة اختصّ الله تعالى بها أولياءه كما في كلام مولانا علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام لمّا همّ ابن زياد بقتله وحالت دونه الحوراء عليها السلام خاطبه قائلاً: "أبالقتل تهدّدني يا بن زياد، أما علمت أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة"(11).
أقول: إنطلاقاً من هذا العشق الإلهي للقتل في سبيل الله ونيل مرتبة الشهادة كان يتمناها الأولياء والصالحون على مرّ التاريخ، وما نشهده في أيامنا من سقوطٍ للشهداء في هذا السبيل ما هو إلا استمرار للقافلة المباركة التي بدأت منذ قتل قابيل أخاه هابيل فكان أوّل دمٍ يُسفك بغير حق، ولن تنتهي ما دام العدل لم يحكم، والظلم منتشراً، وستبقى القلوب تهفو إلى الوصل بسيد الشهداء عليه السلام لتحصيل الكرامة الكبرى، والمقام العظيم. والأمة كل الأمة مدينةٌ لهؤلاء الشهداء شهداء الفضيلة والحق ببقائها وبقاء دينها وعقيدتها وكرامتها مدى الدهر، تستذكرهم وتحتفي بهم وتقتدي بآثارهم وتسير على خطاهم، وتحفظهم في أهلهم وعيالهم وأولادهم، فهذا بعض الوفاء بالدين، والجزاء الأكبر عند الله الذي لا يُضيع أجر المحسنين.
(1) راجع قاموس الكتاب المقدّس، الناشر دار المشغل، بيروت، ص169 و171 وغيرهما، والكتاب المقدس (العهد القديم)، ص1064.
(2) القرآن دعوة نصرانية، ص46، نقله في "صلب المسيح في الإنجيل" لحاتم إسماعيل، المركز الإسلامي للدراسات، ص189.
(3) راجع قاموس الكتاب المقدس، والكتاب المقدس، مجمع الكنائس الشرقية، والكتاب المقدس (العهد الجديد).
(4) قاموس الكتاب المقدس، ص62.
(5) الشهادة تأصيل لا استئصال لمكي البغدادي، طبع الدار الإسلامية، ص109.
(6) ميزان الحكمة للريشهري، دار الحديث، ج5، ص2008، ح9778 عن وسائل الشيعة.
(7) المصدر السابق، ص2004، ح9749 عن الكافي.
(8) المصدر السابق، ص2006، ح9759، عن صحيح مسلم.
(9) المصدر السابق، ص2004، ح9755 عن نهج البلاغة.
(10) نفس المهموم، للشيخ عباس القمي، دار المحجة البيضاء، ص68.
(11) المصدر نفسه، ص372.