حوار: ولاء إبراهيم حمود
منذ أربعين عاماً، كتب غسان مطر التزامه السياسي بقضايا أمته شعراً. ومنذ سبعة عشر عاماً، عزف على قبر وحيدته لارا بكاءه قصيدةً، أرق من الحزن، أصفى من الدمع. تساءلْتُ حينها: "بأي قلمٍ يكتب هذا الرجل شعره، حتى تستقيم قصائده بكل هذا الشموخ؟ بأي نوع من الحبر يرويها، كي توافينا ناضرةً نابضةً، كأنها تعلن صوتها إلقاءاً؟" واليوم استعدت هذا السؤال القديم، بعد أن وافانا عبر شاشة المنار، أثناء عدوان ألفين وستة، بمقاطع شعرية ثائرة للمقاومة، كان قد كتبها يوماً بيوم تحت عنوان "يوميات غاضبة" أو "لمجدك هذا القليل".
حملت إليه السؤال ولم أطرحه عليه، لأنني اكتشفت بنفسي أن غسان مطر أمين عام اتحاد الكتاب اللبنانيين، مقاوِمٌ عبرَ أحدَ عشرَ ديواناً شعرياً. يبري أعصابه أقلاماً لقصائده، ويملأ قلبه محبرة لشعره فيأتي متوَّجاً بالصدق الشجاع والنبض المقاوم. فأعدت لوادي التسعينات سؤالها الساذج، وتركت "لدزينة" الأسئلة المحضرة عام ألفين وسبعة، على الورق، حق الاستجواب، ولجمهور مجلتنا، حق قراءة هذا الاستجواب الحواري، الذي تفيأ ظلال مقاومةٍ، يبقى أمام مجدِها، كل ما نقدمه جميعاً، قليلاً.
* في حزنك الخاص، عزفت على قبر لارا، وفي وجع الفرات، بكيت على دم النخيل، هل يدفعك التزامك إلى التنكر لنبض قلبك الموجوع، كي تعيد إلى الأمة قلبها نابضاً معافى على إيقاع قصيدةٍ روتْها عيناك؟
عندما رأيت أمهات الشهداء يزغردن في أعراس الشهادة، تملكني نوع من الإحساس بالدونية. أنا الباكي الحزين أمام هذه الأم المتألهة بشهادة ابنها. ولطالما راودني السؤال: "هل تزغرد هذه الأم ظاهرياً؟ أم أنها تزغرد في قلبها"؟ وتبين لي أن تلك الأم تملك الإيمان الحقيقي بأن الاستشهاد هو نعمة وبركة لحياتها وللبيت، عندها تحولت من أب للارا إلى شاعر للارا.. ومن ابن للعراق إلى شاعر للعراق، ومن ابن للمقاومة إلى شاعر للمقاومة، وباتت ابنتي، رفيقة سلالة من الشهداء. إذاً الأمور ترتبط وتتكامل بحيث لا تعود هناك إمكانية للفصل بين ما هو خاص وما هو عام. ولا يستطيع أي ملتزم أن ينطوي على وجعه الخاص وحده؛ لذلك تأتي عملية الدمج بين الشأنين إنقاذاً وخلاصاً من آلام الوجع الخاص للاستمرار في قراءة الوجع العام.
* هل أخذت المقاومة في لبنان حقها شعراً ممن يحملون بندقيتها وسواهم ممن يؤيدونها بكل هذا الشغف؟
لأن ما قدَّمه الشهداء أكبر حجماً ونوعاً مما قدّمه الشعراء، يبقى شعر المقاومة، في لبنان والعالم العربي، قليلاً أمام شلالات الدم التي سكبتها مع الشعوب العربية دفاعاً عن حقوقها. ثمة أسماءٌ كثيرة تدعي أنها تكتب للمقاومة، لكنَّها واقعاً تكتب للمساومة، من لم يكتب لتموز وآب، لا ينتمي للمقاومة، لأن أي شاعر لبناني أو عربي، لم تهزه هذه الحرب، ولا انتصارها التاريخي الاعجازي الذي تحقق فيها يهرب من تسجيل اسمه على خانة المقاومة. كثيرون عابوا عليَّ أنني كتبت في زمن الحرب، بدل التأمل والاختزان، حسناً وبعد سنة، كان الوقت كافياً للتأمل ثم الكتابة، أين هي القصائد العصماء عن المقاومة التي كتبها شهداؤها بدمهم؟ نحن استعرنا الحبر، لنكتب على هامش هذا الدم، فكنا صدى خافتاً أمام العبرة الرائعة التي ارتفعت في تموز وآب من العام الماضي.
* في مقدمة "يومياتك الغاضبة"، أعلنت: "إن ما يهمني الآن هو الصدق الذي تحمله الكلمات" ماذا عن مقولة أعذب الشعر أكذبه، هل آن أوان استبدالها بمقولةٍ أخرى كأعذب الشعر أصدقه مثلاً؟
عندما أكتب لسيد المقاومة، يفترض أن يشعر معي من يقرأني بما كنت أشعر به حين كتبت، إذا لم أكن صادقاً مع نفسي لا أستطيع أن أنقل هذا الشعور للآخرين، بصدق يهمني كثيراً ويعنيني، كتبت عن المقاومة وسيدها لأن اللحظة التي كتبت فيها كانت تقف على خيط رفيع بين الحياة والموت، من يستطيع أن يتلوَّن في لحظةٍ كهذه؟ كان في كلمتي كل الشحنات الداخلية التي كهربت أعصابنا جميعاً وخلجاتنا أثناء العدوان، أسألكِ بدوري وأنتِ بنت هذه الأرض كلها، هل تمر بكِ مجزرة قانا دون أن تدمع عيناكِ؟ هذا هو الصدق الذي عشته تماماً وحاولت أن أعبِّر عنه.
* إذاً، هل استطاعت المقاومة بناء مفاهيم نقدية جديدة، بعد أن أنهت زمن النقد الأصمعي، كما أسَّست لشاعرٍ جديد، وإنسانٍ هو الآخر، جديد؟
صحيح، هذا ما حدث بالتحديد، وإليك المثال، عندما كنا نكتب شعر العودة لفلسطين، كان حجم الحنين والمرارة يفرض علينا تقييم القصيدة. قصيدتنا بعد الانتصار، صارت قصيدة عز وفرحٍ وغارٍ ومجدٍ وأحلام كبيرة. وعندما يتغير القاموس الشعري، تتغير اللغة الشعرية، ولا بد أن تتغير معايير النقد لهذه اللغة. لم أعد أستطيع أن أحاكم محمود درويش اليوم، كما كنت أحاكمه عندما كان يحن إلى قهوة أمه. فأنا اليوم أستطيع أن أصعد إلى أمي التي كانت محاصرة في مارون الراس وأشاركها قهوتها.. نعم، سلامٌ على نقدٍ مضى، اليوم لمعايير نقدٍ جديدة، في ظلِّ مقاومة تنتج دماءُ شهدائها حياةً جديدة، ويقال عن شعر شعرائها: أنبل الشعر، أصدقه.
* يسجل ليومياتك وسواها رُقيها اللفظي وبعدها عن الابتذال.. هل تلتزم أيضاً "تابو" معيناً لا يتجاوز حدود شتيمة عادية لحكام العرب الذين شتمتهم وسخرت منهم بقولك لهم "حلوا عن ظهرنا"؟
لا يمكن أن أقبل بأي ابتذال في القصيدة، إلاَّ مخفَّفاً في قصيدة سياسية أهاجم فيها ملوكاً يذلون شعوبهم، ففي قولي لهم وهو حمّالُ أوجهٍ ودلالات؛ لكنها غير صادمة "لو تخجلون وتستحون وتحلون عن ظهرنا"، لم أستطع أن أكبت نفسي عن شتم هؤلاء الجرذان والصراصير التي كانت تتآمر علينا، حين كنا نقتل، لأن جموح غضبي لم يعد قادراً على ضبط لساني عن شتمهم، دون أن يُفْلِتَ أدبياته الخلقية من عقالها... ألا يستحقونها؟
* هل دفعتك حاجتك الفطرية الإنسانية لملائكية وجه البطل إلى إشعاع الرموز الدينية (مريم المسيح محمد الحسين أبو ذر عليهم السلام) أم لأنها وليدة بيئتها، أغنيت قصيدتك بهذه البيارق المتألقة، أم أنك صرت دون أن تدري وندري... شيعياً؟
يبتسم لخاتمة السؤال ويؤكد: "لقد قيل لي فعلاً، إنتَ صرت شيعي؟ وهيدا مش غلط" فأجبتهم بصراحة: أنا مسيحي بالولادة، مسلم بالمصير، شيعي بالجهاد، ربما حصر سواي هذه الرموز العظيمة بإطارها الديني الوحيد لديهم، أما أنا فالحسين بطلٌ من بلادي، وكربلاء، مسرح بطولته، هي بلادي. هي معركةٌ بين الحق والظلم وهي ذات أبعادٍ قيمية ليست دينية فقط. المسيح هو الشهيد الأول في بلادي فلسطين وعلى يد العصابة نفسها التي احتلتها. مريم سيدة الصبر التي رأت ابنها يحاكم، فرافقته. لم آخذ هذه الرموز بمعانيها الدينية المباشرة كما في مذاهبنا، أخذتها كرموز إنسانية كبيرة، ووطنية كبيرة، كلهم عندي واحد، مجاهدون ومناضلون وأبطال من بلادي.
* ما الذي أضاء لديك يقين النصر الذي تحقق، حتى بشّرتنا به قبل نهاية العدوان في فلاشاتٍ كررتها لك شاشة المنار (النصر آتٍ، قلتها ووفيت، قل ما شئت بعد اليوم، وعدك صادق، ويشع من دمك الوفاء) وعدُ السيد وثقتك به، أم حدسك الشعري استطاع استشراف الآتي، أم السياسي الذي حلل لديك وأجاد التحليل؟
عندما أطلق السيد قاذفات وعده الصادق إلى ما بعد حيفا وما بعد ما بعدها، أيقنت بالنصر الآتي استناداً إلى سابقة. وتطورت لديَّ القصيدة من حالة اليأس الكامل إلى اليقظة في عبور يمتلك في دلالاته الهامة ولادة القصيدة التي ذكرها سؤالكِ. وهذا ما لا أحب أن أسميه حدساً أو نبوءةً، إنه إيمانٌ مطلق بأن هذه المقاومة بعد انجاز سنة ألفين، ووعود السيد المتتالية صدقاً محققاً، وبعد وصفه للجيش الإسرائيلي بأنه أوهن من بيت العنكبوت قادرةٌ على الانتصار وإلا لما سمح بأن يحدث ما حدث. الرجل مناضلٌ فذ ومجاهدٌ، هو ليس انتحارياً ومنه صدقت كل رؤاي وتوقعاتي.
* ما الذي أبقيته في داخلك لهذا "الرجل" ولم تقله في مجموعتك؟ وهل تعتقد مثلي أن هذا "الرجل" سيكون بامتياز، ملهم أدبيات أيامنا الآتية؟
لم يدعني أتابع سؤالي: لا يمكن أن يشحب وجه هذا الرجل، وأن تنضبَ قدرته على الإيحاء والإلهام، لأنه واعذريني على هذا التعبير نبي هذا الزمن الجديد، هو لم يعد ملكاً لطائفته لقد بات رمزاً لكل ثوار العالم لا فقط لمقاومته. عندما يخرج الإسرائيلي من مخبئه ويقول: "إذا قال هذا الرجل شيئاً فصدِّقوه، فإنه لا يكذب" وعندما يصرِّح بن اليعازر، بعد تهديد السيد لهم في آخر خطاباته: "يجب أن نأخذ كلام السيد نصر الله بعين الاعتبار فإنه رجلٌ لا يكذب" نعرف عندها قيمة هذا الرجل الكبير. هل سمعتِ بحياتكِ أن أحد السياسيين قال عنه أعداؤه قبل أتباعه: "إنه رجلٌ لا يكذب" "ما صارت لحدا غيرو" رجلٌ يحقق بحفنةٍ من الرجال ما عجزت عن تحقيقه ملايين العرب، يستبطن كل تاريخ الثورات في العالم، ليقود رجاله إلى النصر بكلمة لم يسبقه إليها أحد ولم يقلها قائد قبله "أقبل أقدامكم" هي أبكتني وحدها مرة ثانية بعد بكائي على وحيدتي لارا. لا يتجرأ على السيد حسن اليوم إلا الأميركي أو الإسرائيلي ومن معه. لم يعد بإمكاننا أن نتعاطى مع السيد حسن نصر الله كأي كان.. بعد أن: "رأيت الشمس تأخذ من عمامته أشعتها، لتنير أروقة السماء".
* أخيراً يحطُّ حوارنا رحاله جنوباً، حيث المكان، بؤرة الحدث العظيم، تعملق هو الآخر إنساناً في قصيدتك، مقاوماً على طريقته... لماذا... أهي ضرورات الوزن وجماليات الإيقاع، أم أنها أمكنة عميقة الغور في القلب والذاكرة؟
نعم نحط الرحال جنوباً، شعراً، وذاكرة، هذه الأمكنة لم تأتِ لمجرد الإيقاع والوزن في قصيدتي: "أنا لست أغلى من أهالي مركبا أو عيترون"... إن لها في نفسي موقعاً جعلني أتعاطى معها كما أتعاطى مع إنسان يشعر ويحس، خذي قانا مثلاً: "قانا طفلةٌ سمراء، لم يبق غيرُ حذائها، قبلته وغمسته بدمائها ورميته في وجه حكام العرب". لقد صارت قانا وسواها مزاراً ورمزاً. لم تستطع شتيمته الأخيرة لحكام العرب "على تهذيبها" ولا تحيته الأبوية "لقانا" أن تنهي الحوار هنا، ثمة حواراتٌ أخرى في رجالكِ مقاومتنا العظيمة. ولئن قدم غسان مطر، لمجدك كل هذا القليل الشعري الجميل، فإنني بدوري أقدم لحبكِ، لشهدائك لقائدكِ المفدى، لرجالكِ المرابطين على ثغورك وما ألقوا السلاح كل ما كتبت وما سأكتبه؛ ولو بعد حين.