اعلم أيها العزيز، أن عظمة كل كلام وكل كتاب تكون إما بعظمة متكلمه وكاتبه، وإما بعظمة مطالبه ومقاصده، وإما بعظمة نتائجه وثمراته، وإما بعظمة الرسول والواسطة، وإما بعظمة المرسَل إليه وحامله، وإما بعظمة حافظه وحارسه، وإما بعظمة شارحه ومبيّنه، وإما بعظمة وقت إرساله وكيفية إرساله. وبعض هذه الأمور دخيل في العظمة ذاتاً وجوهراً، وبعضها عَرَضاً وبالواسطة، وبعضها كاشف عن العظمة.
* عظمة القرآن
جميع هذه الأمور التي ذكرناها موجود في القرآن الكريم، هذه الصحيفة النورانية بالوجه الأعلى والأوفى؛ بل هي من مختصّاته، بحيث إن أي كتاب آخر إما لا يشترك معه في شيء منها أصلاً، أو لا يشترك معه في جميع المراتب. أما عظمة متكلمه ومنشئه وصاحبه؛ فهو العظيم المطلق، إذ جميع أنواع العظمة المتصورة في الملك والملكوت، وجميع أنواع القدرة النازلة في الغيب والشهادة، رشحة من تجليات عظمة فعل تلك الذات المقدسة. وأما عظمته بواسطة محتوياته ومقاصده ومطالبه فيستدعي ذلك عقد فصل على حدة، بل فصول وأبواب، ورسالة مستقلة، وكتاب مستقل حتى يسلك نبذة منها في سلك البيان والتحرير. وأما عظمة رسول الوحي وواسطة الإيصال، فهو جبرائيل الأمين والروح الأعظم؛ إذ يتصل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد خروجه عن الجلباب البشري، وتوجيه شطر قلبه إلى حضرة الجبروت بذاك الروح الأعظم. لأن تلك الذات النورانية ملك موكل للعلم والحكمة وصاحب الأرزاق المعنوية والأطعمة الروحانية. ويستفاد من كتاب الله والأحاديث الشريفة تعظيم جبرائيل وتقديمه على سائر الملائكة.
وأما عظمة المرسل إليه ومتحمّله، فهو القلب التقي النقي الأحمدي الأحدي الجمعي المحمدي، الذي تجلى له الحق تعالى بجميع الشؤون الذاتية والصفاتية والأسمائية والأفعالية، وهو صاحب النبوة الختمية، والولاية المطلقة، وهو أكرم البرية، وأعظم الخليقة، وخلاصة الكون، وجوهرة الوجود، وعصارة دار التحقق، واللبنة الأخيرة، وصاحب البرزخية الكبرى، والخلافة العظمى. وأما حافظه وحارسه، فهو ذات الحق جلّ جلاله، كما قال في الآية الكريمة المباركة ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾ (الحجر: 9). وأما شارحه ومبيّنه، فالذوات المطهرة المعصومون من رسول الله إلى حجة العصر عجل الله فرجه والذين هم مفاتيح الوجود، ومخازن الكبرياء، ومعادن الحكمة والوحي، وأصول المعارف والعوارف، وأصحاب مقام الجمع والتفصيل. وأما وقت الوحي، فليلة القدر أعظم الليالي و﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ (القدر: 3) وأنوار الأزمنة، وهي في الحقيقة وقت وصول الوليّ المطلق والرسول الخاتم صلى الله عليه وآله.
* شروط فهم القرآن
أعظم الأدران هي النفس الإنسانية والأهواء النفسية. فما دام الإنسان في حجاب نفسه؛ فإنه لا يستطيع أن يدرك القرآن الذي هو نور، كما يعبر القرآن عن نفسه. فالذين يقفون خلف حجب عديدة لا يمكنهم أن يدركوا النور، ويظنون أنهم يستطيعون إدراكه، لكنهم لا يقدرون على ذلك. ما دام الإنسان لم يخرج من حجاب نفسه المظلم جداً، وطالما أنه مبتلى بالأهواء النفسية، وطالما أنه مبتلى بالعجب، طالما أنه مبتلى بالأمور التي أوجدها في باطن نفسه، وتلك الظلمات التي ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾، فإنه لا يكون مؤهلاً لانعكاس هذا النور الإلهي في قلبه. الذين يريدون فهم القرآن ومحتواه، لا صورته النازلة المحدودة، بل يفهمون محتواه ويزدادون سمواً ورقياً كلما قرأوه، ويقتربون من مصدر النور والمبدأ الأعلى كلما قرأوه، فإن هذا لا يتحقق إلا أن تزول الحجب. ولذا يجب رفع هذه الحجب، حتى تتمكن من رؤية هذا النور كما هو وكما يليق بالإنسان أن يدركه، فأحد الأهداف هو تعليم الكتاب بعد التزكية، وتعليم الحكمة بعد التزكية.
* مائدة القرآن الواسعة
القرآن الكريم عبارة عن مائدة أعدّها الباري تبارك وتعالى للبشر بواسطة نبيّه الأكرم، ليستفيد منها كل إنسان بمقدار استعداده. هذا الكتاب وهذه المائدة الممتدة في الشرق والغرب، ومنذ زمان الوحي وحتى تلاوة يوم القيامة، هو كتاب يستفيد منه كل الناس الجاهل والعالم والفيلسوف والعارف والفقيه والكل يستفيدون منه. فهذه المائدة عامة للجميع. وفيه أيضاً المسائل السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية وغير العسكرية. إذ إن جميعها موجود في هذا الكتاب المقدس. إن الغرض من نزول هذا الكتاب المقدس، ومن بعثة النبي الأكرم، هو لكي يصبح هذا الكتاب في متناول أيدي الجميع، حتى يستفيدوا منه بمقدار سعتهم الوجودية والفكرية. ومع الأسف، فلم نتمكن نحن، ولا البشرية، ولا علماء الإسلام من الاستفادة من هذا الكتاب المقدس بالمقدار الذي تنبغي الاستفادة منه. يجب على الجميع استخدام أفكارهم، وتسخير عقولهم نحو هذا الكتاب العظيم، حتى نتمكن من الاستفادة بمقدار استعدادنا وكما هو عليه. فالقرآن جاء لتستفيد منه جميع الطبقات، كل بمقدار استعداده. وطبعاً، فإن بعض الآيات لا يمكن أن يفهمها إلا رسول الله والمتعلم بتعليمه، ويجب علينا فهمها بواسطتهما. وإن الكثير من الآيات الأخرى هي في متناول أيدي الجميع، حيث يجب عليهم استخدام أفكارهم وعقولهم ليستفيدوا منها مسائل الحياة، سواء حياة هذه الدنيا أو الحياة الأخرى. إذاً، يمكنني أنا وأنتم والكل فهم ألفاظه والاستفادة من معانيها بمقدار استعدادنا. واستهدفت البعثة بسط هذه المائدة بين الناس منذ زمان نزوله وحتى النهاية. فهذه واحدة من أهداف الكتاب وأهداف البعثة. ﴿وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (الجمعة: 2)، فقد تكون هذه هي الغاية من التلاوة، فالتلاوة تكون لأجل التزكية والتعلم، وتعليم الجميع.. تعليمهم هذا الكتاب، وتعليمهم الحكمة التي هي من هذا الكتاب أيضاً. إذاً، فهدف البعثة هو نزول الوحي ونزول القرآن، وهدف تلاوة القرآن على البشر هو ليزكّوا أنفسهم وينقذوا نفوسهم من هذه الظلمات، حتى تتمكن أرواحهم وأذهانهم بعد ذلك من أن تفهم الكتاب والحكمة. فالهدف هو التزكية لأجل فهم الكتاب والحكمة.