حوار مع الشيخ فضل مخدِّر
ولاء إبراهيم حمود
في شعره وهذا أهم ما فيه مرايا تعكس أفراحنا في الحزن، أشواقنا في الغربة، ومضات ولادتنا أحراراً على ضفاف المقاومة وفي أعماق قصائدها المكتوبة بحبر الشرايين ونُسغ القلب، فيه حلاوة انتصاراتنا وآلامها وأوجاع كتابتها دمعاً ودماً. قصدته بمعرفةٍ مسبقةٍ بكل هذا. ولكن أثناء الحوار وبعده، عرفت أنه في حياته كما في شعره شاعِرٌ حتى العظم، شاعرٌ ورسامٌ من طراز رفيع في زمنٍ حوَّل فيه الناسُ والشعراء مجرى الشعر والرسم، إلى اهتماماتٍ أخرى، إنه الشاعر والرسام(1) الشيخ فضل مخدِّر، وهذا بعضٌ من حوارنا حول مجمل قضايا الشعر المعاصر، وأبرزها: إسلامية الشعر والشعر المقاوم.
* ما هي وظيفة الشعر في الحياة؟ وكيف ترى وجهها دون القصيدة؟
يرتبط الشعر بالوجدان الإنساني المبني على أُسس الحس والعاطفة، المأخوذ بجمال الحياة التي يريد أن يوجهها الإنسان باتجاه مرضاة اللَّه. وعندما يرتبط كل هذا الوجدان بقصيدة، يمكن أن تعبر عن مدى التفاته إلى هذه الحياة وتلك الآخرة، وفقدها يعني فقد هذا المعبِّر عن هذا الحس، وبذلك تكون الحياة برمتها قد فقدت شيئاً كبيراً عندما تفقد القصيدة.
* ما الذي أخذ الشاعر الشيخ من محراب الدين والتزامات العِمَّة البيضاء إلى حدائق الشعر الغنَّاء؟
لا أفترض أن هناك مفارقة، كما يرى الآخرون، فارتباط الإنسان بمفهومه الديني يكون من خلال التشريع الإلهي وبقصيدته من خلال ما يحمله وجدانه من مشاعر. هو يرتبط مع ذلك المسلك الخاص الذي يؤدي به إلى الله. هذه فطرة اللَّه التي فطر عليها عباده. لذلك، تكون كل دوائر حركتنا في حياتنا دائرة واحدة. هي محاولة إخراج تلك الأحاسيس النابعة من تلك الفطرة. وهذا لا يمنع أن تتضمن القصيدة موضوعاً دينياً، أو أخلاقياً، أو مضموناً غزلياً، طالما أن الغزل بقي في حدود مضمون لم يخرج عن رضا اللَّه. فكلما اقترب الإنسان من اللَّه، اقترب من ذلك الحس الإنساني الذي ينفتح فيه على ذاته والآخر، فاتحاً لروحيته أبواباً على منافذ الكلمة التي تلغي التفاوت بين الدين والقصيدة، التي بدأت توصل الإنسان إلى ما يريده اللَّه سبحانه.
* ولكن ثمة من يرى أن الدين قيدٌ، سيفٌ يحدُّ انطلاقة الشاعر، والشعر فضاءٌ رحبٌ لا متناهٍ، ألا تكمن هنا المفارقة ويبدو التفاوت؟
لا أظن أن في الحياة مسلكاً لا قيود فيه أو عليه، حتى الشعر، لأننا في إطارٍ تكويني متشابك، يمكن للإنسان أن يتفلت من الموضوع التشريعي، لكنه لا يُمكن له أن يتفلَّت من الفطرة التكوينية في كل القضايا، فعن الإمام الصادق عليه السلام وعن أصول الدين "لا جبر ولا تفويض، إنما أمرٌ بين أمرين". في هذا الإطار، لا أجد الدين سيفاً أو قيداً، كما لا أجد الشعر فضاءاً رحباً إلى ما لا نهاية. إن الفضاء الذي يوسعه الدين للشعر يمكن أن يكون معونة للشاعر، يستفيد منها ذلك الإحساس ضمن القصيدة. بالمناسبة، لم أكتب حتى الآن قصيدة دينيةٍ، علماً أن الدين يحيط بكل مشاعري حتى قصيدة "إلى محجبة" كتبت، وإن صح التعبير كقصيدة غزل، رغم تضمنها مفاهيم تناسب الحالة الدينية.
* إذاً، كيف تقيِّم وضع القصيدة الإسلامية وسط الأزمات الكبيرة التي يعانيها الشعر اليوم؟ وما هي أسباب هذا الوضع، سواء أكان سلباً أم إيجاباً؟
إن التعبير عن حالة ما، كما تفعل القصيدة الإسلامية، في وسطٍ مختلف، يضيق عليها الأفق، وهي تواجه سؤالاً حاداً: هل هي مقبولة من الآخر، ومرغوب سماعها فضلاً عن كتابتها؟ هنا تدخل القصيدة الإسلامية في مشكلة قبول الآخر لها، من خلال الفكر الإسلامي الذي تحمله أو تنتمي إليه. وقياساً للفضاء الرحب الذي يوسعه الدين للقصيدة كما قلنا سابقاً، نجد أن القصيدة الإسلامية تعاني معاناة غريبة على مستوى التعبير عن الوجدان الإسلامي المرتبط بدينه وفكره. وفي دائرته الخاصة، نجده ضعيفاً، مما يجعل الشعراء الإسلاميين يعبرون عن "وجادينهم" أمام الآخرين بصورةٍ أضعف مما نحن عليه من تطور الفكر.
* هل تفقد القصيدة الإسلامية نسبها الشرعي (إسلاميتها) إذا خرجت من شاعرٍ غير إسلامي بمضمونٍ إسلامي، أم يشترط في صحة نسبها إسلامية شاعرها (سلوكاً وهويةً)؟ وماذا لو فقدت أحد هذين الشرطين؟
القضية قضية مُسمَّيات، التعامل الموضوعي معها يفترض الحديث عن كل قصيدة تحمل الهمَّ الإسلامي. حتى ولو لم تكن قضاياها التفصيلية في باطنها ذات لونٍ إسلامي، يكفيها أن تحمل بنظري همَّ الارتباط بالسماء، لأعتبرها إسلامية، ولو كان شاعرها غير ملتزم إسلامياً أو حتى لا يحمل في هويته هذا الانتماء. وهنا لا أنفي أن ما بين القصيدة وشاعرها حالة من الارتباط توثق إسلاميتها أكثر فيما لو كان شاعرها إسلامياً، مما يدعوني لمخاطبة الشاعر الإسلامي: كونك إسلامياً، أخرج بقصيدة تعبر عن همك الكبير، بما تحمل من وجدان اتسعت فضاءاته، بأوضح أدوات هذا الشعر إلى أقصى حد يمكنك معه القول للآخرين هذا أنا، هؤلاء نحن، هذه قصائدنا.
* في ديوانك الأول (صلة تراب)، قرأت إيمانك بالمقاومة الذي غناه وجدانك الإنساني في أرقى إطارٍ شعري، حبذا لو أقرأ في إجابتك الأخيرة رؤاك المختلفة، رضاك عن قصيدتها التي قيلت لها... ومن منهما يحتاج الآخر أكثر؟
القضية ليست قضية حاجة أحدهما للآخر، إنها حاجة الجميع إلى المواجهة، إلى الوقوف بوجه الطاغوت، لتفكيك عُقد السياج الطاغوتي الذي يحاصر مجتمعنا. إن شعوري الحقيقي بالعجز الدائم وعبر أي شكلٍ من أشكال التعبير عن قضية المقاومة، أمام المقاوم الذي يحمل روحه على كفِّه، ويقدم دمه يجعلني أرى الكلمة شكلاً من أشكال المواجهة يسعى للوقوف إلى جانب البندقية والدم، وهذا حسبها. يبقى السيف، سيف المقاومة، أصدق إنباءاً من الكتب كما يقول أبو تمام.
* ما قضية الشعر المقاوم؟
نحن جميعاً وفي هذا الاطار، لم نعبِّر عن قضيتنا شعراً، عبرنا عنها قولاً، وهذا القول خرج نظماً في بعض الأحيان، أعني بذلك واقعنا في لبنان ولا أعني شعراء زمن الاحتلال الإسرائيلي عام 48 وما قبله، حيث برز شعر مقاومة رائع جداً...
* أتعني بذلك أننا لم نكتب شعراً بمستوى شعر المقاومة الفلسطينية؟
المسألة أبعد من عام 48. الشعر المقاوم ليس حالة متأخرة، أو وليد القرن العشرين، إنه شعرٌ له جذوره، وتاريخه المرتبط بجذور المواجهة القائمة قديماً في أمتنا من عهد الرسول والأئمة، ولعلهما توأمان. قصدت عدم رضاي عن واقعنا نحن الذين حملنا هذا الفكر الرائد وهذه الأيديولوجية العظيمة. ما زلنا في طور النشأة ونحتاج إلى الكثير من الجهد لنتطور... وعلينا أن نخرج من غفلة الاغترار بلقب شاعر مقاومة لكل من كتب رباعية أو خماسية يتيمة تفيَّأ فيها عظمة الدم المقاوم.
* أين تكمن علة هذا الشعر، الذي انطلق أصحابه من نقاء وجدانهم وصدق ولائهم لهذه المقاومة، وهم في أغلب الأحيان أبناؤها وحملة بندقيتها؟
أنا لا أنعى على شعرائنا صدقهم ولا جرأتهم ولا نقاء وجدانهم، بل أشهد لهم بذلك، ولكني أسجل عليهم خروج قصائدهم بمستوى أقل تعبيراً مما يحمله صدق ولائهم ومستوى جرأتهم ونقاء وجدانهم. إن شعراءنا قدموا تعبيراً أقل بكثير من تعبير البندقية والدم، حتى الشعر الآخر الذي ارتقى بمستواه الفني التعبيري يعلن عجزه عن مواكبة الدم والبندقية التي امتلكت وحدها فضاء التعبير الأوسع، فكان التحرير مصداقاً. كيف بنا أمام شعر تصدَّى للتعبير عن قضيةٍ أكبر بكثير مما يمتلك من أدوات شعرية!؟ ولئن أغلق الشاعر الشيخ الحوار، بفتح آخر علامة استفهام فيه، بعد أن أكد على ضرورة السعي لتطوير الشعر المقاوم ليقوم بدوره كاملاً إلى جانب البندقية، فإنني أتركه كما فعل مفتوحاً على أملنا جميعاً بنهضة القصيدة المقاومة، لأقدم لي ولكم أعزائي القراء قصيدته لشهداء الوعد الصادق التي أصرُّ وستوافقونني بعد قراءتها على أنها من عيون الشعر اللبناني الإسلامي المعاصر مقاومةً وجهاداً.
(1) كل رسومات ديوانه الأول "صلة تراب" بريشته.