الشيخ تامر محمد حمزة
إنّ القيمة الحقيقية لأي حدث تاريخي، إنّما تؤخد من خلال القراءة الموضوعية لكل الجوانب والظروف التي أحاطت بذلك الحدث ورافقته. وعندما نريد دراسة صلح الإمام الحسن المجتبى عليه السلام مع معاوية، لا بد لنا من دراسة الظروف التي كانت تعيشها الأمة. وكيف كان، فإن دراسة الصلح المذكور، لا تنفصل أبداً عن الظروف الموضوعية والمتغيرات الحادثة في زمانه. ولبيان ذلك، لا بد من الإشارة إلى بعض الأمور:
أولاً: الإسلام هو دين السلام، وتحقيق السلام قد يتوصل إليه بالحرب أحياناً، وأخرى بالصلح والمهادنة. وبناء عليه، فإن الحرب والسلم لا يعتبران هدفين بحد ذاتهما بنظر الإسلام، بل هما أسلوبان وطريقان للتوصل إلى السلام في المجتمع.
ثانياً: تبدل الأسلوب أو اختياره، مرتبط بالظروف الموضوعية وتبدل الأحوال المتعلقة بالحكام وبالأمة.
ثالثاً: الذي يختار الأسلوب، يجب أن يكون خبيراً في تبدل الظروف، وله قراءة دقيقة في النتائج التي يفرزها أحد الأسلوبين. ومن هو أكثر خبرة ممن عصم اللَّه من الزلل والاشتباه والخطأ حتى الخطأ في التفكير؟
رابعاً: يجب أن تكون إرادة الناس تابعة لإرادة الإمام، ولا يجوز لهم التخلف والتمرد. نعم؛ ربما يحاول البعض استظهار وجه الحكمة أو العلة في فعل الإمام.
خامساً: ليس الصلح الذي عقده الإمام الحسن عليه السلام، هو أول صلح يعقد في الإسلام. وكذلك، فليست ثورة الإمام الحسين عليه السلام، تعتبر الثورة الأولى. نعم، قد تختلف النتائج من ثورة لأخرى. فمن يتصفح التاريخ، يجد أن النبي صلى الله عليه وآله الذي قام بالغزوات وشهد عدة حروب وفتوحات، قد عقد عدة مهادنات، أهمها وأشهرها صلح الحديبية الذي يشابه إلى حد كبير صلح الإمام الحسن بلحاظ المقدمات والآثار والنتائج.
الخلاصة: من يؤمن بأن الحرب دائماً هي سبيل السلام أو الصلح كذلك، فقد أخطأ الطريق ولم يهتدِ إلى سواء السبيل.
*الظروف والملابسات
الظرف الاجتماعي: ويمكن لنا تلخيص الظرف الاجتماعي بما يلي:
الحزب الأموي الذي انتشر في أوساط الكوفة. الخوارج، وهم أكثر أهل الكوفة، والذين كانوا بحاجة إلى الحرب، حتى إنهم اشترطوا على الإمام الحسن عند بيعتهم له حرب الضالين، فرفض. وهؤلاء تعاونوا مع الحزب الأموي على حياكة المؤامرات الخطيرة والمناهضة لمشروع الإمام الحسن. المذبذبون أصحاب الروح الانهزامية لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وهم ليسوا أقل خطراً ممن سبقهم. الحمراء وهم شرطة زياد بن أبيه، وطابعهم هو التسلط والقهر وصارت الكوفة تنسب إليهم.
الظرف العسكري: لقد تمكن معاوية من التواصل مع بعض قادة جيش الإمام الحسن، كما حصل لعبيد اللَّه بن العباس.
الظرف الاعلامي: الكثير من الناس، يعتقد أن معاوية رجل معارض للخلافة الرسمية بقوة الإعلام الذي يملكه، وصوّر لهم عدم رسميتها لكونها ملطخة بدماء عثمان، ولم يظهر لهم أنه يريد الخلافة لنفسه، وإنما يريد الثأر لدم عثمان.
في المقابل، يصور لنا الإمام عليه السلام واقع أهل الكوفة فيقول: (عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ولا يصلح لي منهم ما كان فاسداً، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل... أما والله، ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذمة ولا قلة، ولكن نقاتلهم بالسلامة والصبر، نشيب السلامة بالعداوة والصبر والجزع، وكنتم تتوجهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنتم لنا وقد صرتم علينا). بل وصل الأمر ببعض زعماء الكوفة، إلى مراسلة معاوية طمعاً بما في يده بتسليم الإمام مكتوفاً إليه متى شاء، ثم يأتون إلى الإمام يظهرون له الطاعة والولاء قائلين له: (أنت خليفة أبيك ووصيه، ونحن السامعون المطيعون لك، فمرنا بأمرك) فقال لهم الإمام عليه السلام (كذبتم والله، ما وفيتم والله لمن كان خيراً مني، فكيف تفون لي وكيف أطمئن إليكم وأثق بكم؟).
إن فهم الإمام الدقيق للمجتمع الكوفي، وعلمه بما في نفوس أهله وميلهم إلى الراحة والدعة والطمع، سوف يحول الحرب إلى فرصة بيد معاوية للقضاء على الإمام الحسن، وعلى الفكر الذي يحمله، وحتى على الشيعة والتشيع. لذا، وجد أن الأسلوب الآخر لمواجهة معاوية، هو الأجدى والأفضل. وبدأ الإمام يخطط لكشف حقيقة معاوية أمام الناس، وليخلع عنه اللباس المزيف الذي لبسه، وهو لباس الخلافة، والسبيل لذلك، هو الحرب الباردة من خلال معاهدة الصلح. ويتبين هذا من خلال قول الإمام عليه السلام للمسيب بن نجبة: (يا مسيب، إني لو أردت بما فعلت الدنيا، لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء ولا أثبت عند الحرب مني، ولكني أردت صلاحكم وكفَّ بعضكم عن بعض، فارضوا بقدر الله وقضائه حتى يستريح بر ويستراح من فاجر) (أعيان الشيعة، ج4، ق1، ص27، صلح الحسن ص199). وبعد أن تيقن معاوية من حسم المعركة العسكرية لصالحه، خرج على الناس كمحب للسلام ولا يريد سفك الدماء، وسلك سبيلاً يقوم على المكر والخديعة مشابهاً للسبيل الذي اتبعه في صفين من رفع المصاحف؛ فأرسل برسالة بيضاء إلى الإمام الحسن يعرض عليه الصلح بالشروط التي يريدها الإمام، معتقداً أنه سيرفض الصلح وتكون الذريعة لاجتثاث ما تبقى من رسالة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله، وإعادة المجتمع إلى الجاهلية السابقة. وكانت المفاجأة الكبرى من الإمام الحسن، حيث قَبِل الصلح ووضع الشروط التي وضعت معاوية أمام خيارين:
- إما الالتزام بها وهي أكثر ضرراً على مشروعه من الحرب.
- وإما رفضها وإظهار نفسه أمام الناس بأنه مخادع وكذاب.
وبالفعل، عندما أدرج الإمام الحسن عليه السلام الشروط الخمسة في المعاهدة، كانت الضمانة لاستمرار الرسالة وبداية زوال عشرين عاماً من الحكم الأموي. وعندما نجحت خطوة الإمام وشعر معاوية بأنه أمام الحفرة التي حفرها لنفسه، سارع إلى نقض المعاهدة من خلال خطابه أمام أهل الكوفة بقوله: (واللَّه إني ما قاتلتكم لتصلوا ولتصوموا ولتحجوا ولا لتزكوا، ولكني قاتلتكم لأتآمر عليكم، وقد أعطاني اللَّه ذلك وأنتم له كارهون. ألا وإني قد منّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها). وبهذا الاعتراف، كشف معاوية اللثام عن وجهه الحقيقي، وأن أطروحته هي امتداد للجاهلية التي تريد هدم الإسلام. وحينها أدرك المسلمون حقانية أطروحة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، ولكن بعد فوات الأوان.
* بنود الصلح
المادة الأولى: تسليم الأمر لمعاوية، على أن يعمل بكتاب اللَّه وسنة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين.
المادة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث، فلأخيه الحسين. وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.
المادة الثالثة: أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً إلا بالخير.
المادة الرابعة: استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر. وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن كل عام ألفي ألف درهم، وأن يفضل بني هاشم في العطاء والصلات على بني عبد شمس. وأن يفرق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه في صفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك في خراج دار (ابجرد).
المادة الخامسة: على أن الناس آمنون حيث كانوا في أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما نص، وأن لا يأخذ أهل العرف بإحنة.