قبل تحليل الظروف والدوافع التي أدّت إلى صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية، لا بدّ أن نلفت النظر إلى أنّ منشأ التهم الباطلة الموجّهة إليه
عليه السلام من حب الدعة والاسترخاء وغيرها، ليس سوى الجهل التام بحقيقة ذلك الإمام الهمّام ومقامه السامي. فالمطلع البصير بأمور ذلك الزمان يدرك عظمة شجاعة الإمام
عليه السلام في اتخاذ قرار الصلح والهدنة وهو ابن من يستأنس بالموت أكثر من استئناس الطفل بحليب أمّه. وهو ابن أمير المؤمنين عليه السلام الذي يقول مخاطباً إياه: "وجدتك بعضي بل وجدتك كلّي".
فمن يقول أنّ قرار الحرب والقتال أصعب على الإمام الحسن عليه السلام من قرار الصلح والهدنة؟
ويا عجباً! ألم يكن قرار وقف الحرب أمر من العلقم عند الإمام الخميني قدس سره الشريف وهو أحد أتباعه؟ فكيف بك بالإمام المعصوم! فالسلام عليك يا مولاي يوم ولدت ويوم تجرّعت سمّ الصلح ويوم استشهدت مسموماً ورحمة الله وبركاته.
* الحسن بن علي عليه السلام
رغم كلّ شكّ واتهام وتحليل خاطئ، يبقى هو ذاك السيد المحمدي العلوي، والذي تربّى في حجر النبوّة فورث تراثها إماماً يعلم كيف تقدّم مصلحة الدين على كلّ مصلحة، وكيف يُحفظ بكل غالٍ ونفيس ذاك التراث الذي أوذي فيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما لم يُؤذ نبي من قبل، وأقصي فيه عليّ الركنُ وحجر الرحى وقطب دائرة الإمكان.
إنّه الحسن بن علي أخو الحسين بن علي الثائر، وإمامه، في فترة لم يشهد التاريخ مثلها حرجاً وضيقاً ووضوحاً لذي عينين. وإن كان للحسين ثورة فتلك بركة أخٍ قبله شاء الإله أن يكون هو قائدها دونه، ولولا ذلك لحملت أسفار التاريخ قصة شهادته هو في مكان ما مثل كربلاء. لكن يبقى الحسن والحسين عليهما السلام – قبلتين لمشروع واحدٍ، توزّعت فيه الأدوار، فجاء دور الحسن
عليه السلام مشوباً بقساوة عصره وجهل أتباعه وظلم أعدائه.. ومن هنا تبدأ القصّة.
* استشهاد الأمير عليه االسلام
في سنة 40 للهجرة استشهد علي عليه السلام على يد الخوارج، فسقط بذلك الرمز الأول والأوحد الذي كان يستطيع استعادة خط التجربة المحمدية، وأورث مكرهاً من جراء ذلك المشكلة التي كان يحاول أن يُنهينا – وكاد ينجح وهي مشكلة معاوية العاصي على إمارة الشام والذي كان قد استغلّ نفاقه وخيانته ومقتل الخليفة الثالث عثمان ليعلن تمرّده على الوالي الحق للأمة. والذي ورث هذه المشكلة كان نجله الأكبر الحسن عليه السلام، إذ جاءت الناس مبايعة له، وملقية للحجّة عليه بنصرة ظاهرية وبالتالي، وقع عبء الخلاص من معاوية على كاهله. فكيف جرت الأمور؟
* المشروع الأموي
سبق وأشرنا في بحث سابق إلى أنّ المشروع الأموي لم يكن وليد ساعته، وإنّما تعود جذوره إلى أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإن كان في تلك الفترة ناراً تحت رماد. وقد ظهر هذا المشروع بإحدى صوره العلنية فيما جرى في سقيفة بني ساعدة وما تلاها من نتائج على مستوى الأمة، واستمرّ الحال كذلك إلى زمن الإمام الحسن
عليه السلام. فمعاوية الذي عيّنه عمر وما لبث أن استقلّ بولاية الشام والذي أجازوا له الظهو ر بمظاهر ملكية تحت حجّة القرب من دولة القياصرة البيزنطية،
هو ثمرة مشروع كان يطمح منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إقصاء بني هاشم عموماً، وأهل البيت عليه السلام خصوصاً، عن ساحة النفوذ وإمرة المسلمين، وقد أشار الإمام الحسن سلام الله عليه إلى ذلك في رسالة كتبها لمعاوية إبان بيعة الناس له عليه السلام في الكوفة، فقال عليه السلام: ولقد كنّا تعجّبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا.
وإذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين أن يجد المنافقون. والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، ويكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده فاليوم فليتعجب المتعجّب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضلٍ في الدين معروف، ولا أثرٍ في الدين محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلّى الله عليه وآله وكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار".
فقوله عليه السلام "فاليوم.." مُبتدئاً" بفاء العطف بعد سياق كلام، إشارة من الحسن
عليه السلام إلى أن موقعية معاوية اليوم ومشروعه، ليسا وليدي ساعتهما، بل محطة من محطات مشروع قديم لإفساد الدين وتحكيم الهوى.
وبنيل الحسن عليه السلام البيعة من الناس طوعاً ورغبة في الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 40 ه، يوم تأبين والده عليه السلام، حيث دانت له الكوفة ومعها البصرة والمدائن وسائر العراق، وكذلك الحجاز واليمن على يد القائد "جارية بن قدامة" وفارس أيضاً علي يد عاملها "زياد بن عبيد" كما بايعه من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والأنصار وبالرغم من هذه البيعة، كان الحسن
عليه السلام يرى جواً محشواً بالمفاجآت والمخاطر، فنراه يحذر أصحابه من على المنبر إذا قال:
"وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان فإنّه لكم عدومبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جار لكم. فلما تراءت الفئتان نكص على عقبه وقال إنّي بريء منكم إني أرى ما لا ترون. فستلقون للرماح ورداً، وللسيوف جزراً، وللعُمُد حطماً وللسهام غرضاً، ثم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل وكسبت في إيمانها خيراً.."
* أجواء ما بعد البيعة
عُرف الحسن بن علي عليه السلام بسجايا حميدة جعلتته محبوباً لدى جماهير الأمة عموماً، حتّى أنّ ابن كثير يذكر في كتابه البداية والنهاية الجزء الثامن ص 41 ما مفاده أنّ الناس أحبّت الحسن
عليه السلام أكثر من حبّها لأبيه عليه السلام، وهذا أوّل ما يُفسّر إنقياد معظم الناس لبيعته طوعاً، كما بيعة المؤمنين المخلصين، إذ لم يكونوا قد عهدوا منه موقفاً آنذاك يعارض طرفاً ويخالف مشروعاً، بل كان عليه السلام يمثّل هم خُلق جدّه صلّى الله عليه وآله.
لكن بمجرّد أن تكشّفت مواقفه التي أضحت الآن ضرورة يحتمها موقعه من الأمّة، ظهرت حقيقة بيعة الكثيرين من الناس، الذين ظنّوا خطأ أنّهم يستطيعون استغلال الحسن من خلال مبايعته – ليضمنوا مشروعهم وأطماعهم، فجاءت النتيجة عكس ما تمنّوا. ونشأت إثر ذلك موجة من العصبية البغيضة والتي أدّت إلى تفاقم مشكلات داخلية ساهمت لاحقاً في إضعاف موقف الإمام
عليه السلام ودفعه نحوالصلح.
* الحل العسكري
أرسل الحسن عليه السلام إلى معاوية رسالة مع حرب بن عبد الله الأزدي، سبق وأشرنا إلى بعض مضمونها في معرض الحديث عن المشروع الأموي، وفيها أيضاً إعذار إلى الله ورسوله ودينه، وإلى معاوية عله يرتدع عن ظلمه وغيه ويُنهي المشكلة دون اللجوء إلى الحرب والقتال، وهدّده في ختام رسالته بشكل واضح وصريح بالحرب إن هو أبى الانصياع لحكم الولي الشرعي. قال
عليه السلام: "فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحق بهذا الأمر منك عند الله، وعند كلّ أوّاب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتقِ الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به. وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين. وإن أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
مما يستنتج من هذه الرسالة، أنّ الحسن عليه السلام لم يكن راغباً في الصلح منذ البداية، لا أنّ جوهر شخصيته
عليه السلام يختلف عن أخيه الحسن عليه السلام، كما حلا للبعض أن يصوّر، لكن تلك الظروف التي واجهها عليه السلام هي التي أدارت الدفّة بعكس ما اشتهى أن يراه من تطبيق الإسلام فبعد أن دعا عليه السلام للتعبئة العامّة لحرب معاوية واستئصاله، حصل نوع من الاستجابة والتلبية الظاهرية إن صحت التسمية والتي لم تكن عموماً تبشّر بالخير، إذ انضوى تحت لواء الجيوش التي كانت قد بدأت تتجمّع أعلام الحزب الأموي والخوارج وغيرهم، والذين دفعوا الإمام
عليه السلام للتحسّب منهم بالرغم من ظاهر طاعتهم، وهذه الدعوة للحرب جاءت نتيجة لرسائل معاوية الجوابية للحسن والتي أراد منها إثارة الفتنة واستمرّ إثرها بالاستئساد على الخلافة والخليفة الشرعي، فلم يكن بد من حربه وقتاله: "إرجعا فليس بيني وبينكم إلاّ السيف".
هذه التعبئة للحرب تمثّلت في أوجها بخروج الحسن عليه السلام بنفسه معكسراً في منطقة النخيلة لمدة عشرة أيام، لم يستجب له إثرها سوى أربعة آلاف من أصل ثلاثمائة وخمسين ألف مقاتل كانوا مرشحين للخروج معه من الكوفة ومحيطها – دون سائر المناطق – ناهيك عن هروب القائد الأقرب نسباً إليه ابن عمه عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، على رأس ثمانية آلاف من أصل إثني عشر ألف بعثهم للقاء معاوية وكمقدّمة لحملته العسكرية. إنّ واقع الحال لم يتكشّف إلاّ عن ضعف وهزال معنوي لم يكن يشجّع على الدخول في حربٍ خاسرة، الرابح الكبير فيها هو عدوالمسلمين معاوية.
* أسباب فشل فرصة الحرب
أ- عناصر الكوفة: لقد فتّ من عضد الكوفة تنازع الهو اء أهلها، فحولتهم شِيَعاً وأحزاباً، أضعفوا بتفرقهم صف الإمام
عليه السلام وساهموا في تقوية عدوه، والبعض منهم عمل على الاتصال به ودعوته إلى الكوفة، وآخرون دخلوا في مشروع قتل الحسن
عليه السلام اغتيالاً، استجابةً لإغراء معاوية لهم بالمال والزواج من إحدى بناته.
ومن هذه الأحزاب، الحزب الأموي الذي من أقطابه عمروبن حريث، وعمر بن سعد وغيرهم، وهم من واعد معاوية بتسليم الحسن له والفتك به عند دنومعاوية من الكوفة.
والأهم من هؤلاء كان الخوارج، ومن أقطابهم شبث بن ربعي وابن الكواء والشمّر والأشعث بن قيس، ومواقف هؤلاء معروفة لا حاجة للبحث عنها يضاف إليهم فئة عرفت بالشكاكين، نتيجة تأثرهم بدعوة الخوارج دون أن يكونوا منهم، فشكلوا بموقفهم المذبذب هذا أداة مسخرة بيد معاوية وأصحابه. وآخر هذه الفئات كانت تلك التي عرفت باسم الحمراء، وكانوا عشرين ألفاً من مسلحة الكوفة، من شكلوا شرطة زياد لاحقاً سنة 51 ه، وفعلوا ما فعلوا بشيعة علي عليه السلام في الكوفة. ويصحّ أن يطلق عليهم لقب المرتزقة، يقفون إلى جانب المنتصر،
وغالبيتهم كانت من الموالي والعبيد وأبناء السبايا الفارسيات اللواتي أسرن ما بين عام 12 ه وعام 17 ه من "عين التمر" و"جلولاء". وبالتالي، كان تشكل جيش الحسن
عليه السلام من كلّ هذه الفرق المترامية الهو اء والمشاريع سبباً رئيساً في فشل الحرب، ولا ننسى أن نذكر أنّ معاوية قد عمل على بث الجواسيس وإثارة الفتن والشائعات بين أهل الكوفة، فأضحت ألعوبة تتقاذفها رياح السموم والهو اء الآتية من كلّ جهة، حتّى أنّ الإمام
عليه السلام – على ما ذكر التاريخ كان له خطوات خطاها لاستدراك الموقف وتجنيب جبهته أكبر قدر من الخسائر.
ب-خفاء شخصية معاوية
لقد أدى نفاق معاوية وسياسته الإعلامية ودبلوماسيته الغادرة إلى إخفاء صورته الحقيقية عن أعين الناس، بل سارت الأمور باتجاه تحويله إلى شخصية مقبولة لدى عامة المجتمع، واشتهر عنه حلمه وسعة صدره مع أعدائه وعليه، فقد تعطّل عامل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب دهاء معاوية وخداعه للناس، لم يكن يملك الحسن
عليه السلام إلاّ أن يقول لهم إنّ معاوية سيفعل كذا وكذا، إشارة إلى أمرس لم يقع بعد، مما سيضعف موقفه، فأنّى أن نحاكم! من نجهل؟ وأقل دليل على ما يقال هو أنّ الحرب العسكرية قد تحولت في واقع الأمر إلى حرب فتنٍ قادها معاوية بنفسه، يبثّ شائعة هنا ويرشي برشوة هناك، حتّى أضعفت هذه الفتن معظم مواقع الحسن
عليه السلام ولولم تكن شخصية معاوية خافية – ولونتيجة الجهل على هؤلاء الناس لما استطاع أن يبلغ هذا المبلغ، ويوصل الأمور إلى الصلح.
* ثمرة الصراع: الصلح
وإذا شاءت بعض الدوافع الخاصّة لمعاوية أن يدعوإلى الصلح فلا غروفيمن كان يمثّل موقف الحسن
عليه السلام أن يلجأ أيضاً إلى الصلح استجابة لدعوة خصمه. فالحسن عليه السلام إنّما أراد بصلحه هذا أن يريح ما شاءت الظروف وشاء ضعاف الناس من تخسيره إياه لاسيّما أنّ الصلح لن يتأثّر بما يمليه الآخرون عليه من الناحية العملية، بل سيكون هو سيد الموقف، وسيملي على خصمه الذي لم يشترط سوى بقائه في الملك، شروطاً تفضحه شيئاً فشيئاً وتسقط موقعه بنقضها، وهو ما أدركه الحسن
عليه السلام وأجاد استغلاله.
والحسن عليه السلام بصلحه إنّما استجاب للحفاظ على الإسلام في حال فشل فرصة استعادة التجربة النبوية الشريفة على قاعدة الأولى – في حال عدم مؤثرية الشهادة. ولعلّنا نجرؤ أن نقول بأنّ طلب الصلح اندفع من عمق أنانية معاوية وهو بالحكم، ليشكّل خطأ الأخير المميت، وليساهم في تصحيح موقف الحسن
عليه السلام ويمنحه ما يمكن أن يحفظ به الدين الحنيف، يُضاف إلى ذلك أنّ الصلح ببنوده قد ساهم في توفير عامل الوقت الذي كان يحتاجه الحسن
عليه السلام ليفضح المشروع الأموي أمام أنظار الجميع وهو ما لم يكن متوافراً آنذاك. وعليه، كان المرشح لقطف ثمرة الصلح هو الحسن
عليه السلام مما سيسمح له بالثورة مجدداً، لكن بشهادته عليه السلام، انتقل عبء الأمر إلى الحسين عليه السلام، وكان ما كان.
ولوأمكن في هذه العجالة دراسة بنود المعاهدة لتبين بشكل واضح كيف ساهم هذا الصلح – في حفظ الإسلام والتشيّع وفضح النظام الأموي. إنّ الحسن
عليه السلام بعمله هذا أضحى كما أبوه وجدّه وأخوه عليهم السلام منارة في إثرة الدين على النفس، وقمّة في التضحية والوفاء للمبدأ، وليس يقلّ صلحه مرتبة عن دم الحسين
عليه السلام في كربلاء.