السيد بلال وهبي
عندما نريد أن نكتب عن شخصيّة ما لا يمكننا أن نغفل عن الظروف التي أحاطت بها، فارضةً نفسها على قراراتها ومبديةً لها بالشكل الذي تريد، لأنّنا إنْ أغفلنا ذلك سنتورّط في مجانبة الحقيقة والفهم المجتزَأ الذي يغاير الواقع.
لذا، عند الكتابة عن الإمام الحسن بن عليّ المجتبى عليه السلام لا بدّ من متابعة الظروف التي أحاطت به من لدن أن ارتحل جدُّه رسول الله الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم إلى حين شهادته عليه السلام وما مرّ عليه من أحداث بين هذين الحدَثين الجليلين، إذ كانت ظروفاً غاية في الصعوبات ومشحونة بالأحداث ومملوءة بالمرارات وخيبات الأمل، وكان عليه عليه السلام، أن يتحمّل كلّ ذلك وأن يحفظ دين الله وميراث جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
في هذه المقالة، سنعرض الجانب المتّصل بالدور العظيم الذي اضطلع به الإمام المجتبى عليه السلام بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وموجات الخيانة التي واجهها من جيشه وقوّاده.
*موحّدون لله في مجتمع الجهل والأميّة
لقد بُعِثَ النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم في مجتمع تتحكّم فيه كلّ صور الجاهلية من الروابط القَبَلِيَّة ولو على حساب القيم السامية. وكان بنو هاشم يُشار إليهم بالبنان، فإليهم مرجع الناس في الملمّات، ولهم الكلمة العليا في مكّة، وهم معروفون بالصلاح وحسن الخلق، وموحدون لله على ملّة جدّهم إبراهيم الخليل عليه السلام.
يقابلهم بنو أمية الذين لم يكن عندهم مكانة بني هاشم وليس فيهم كمالاتهم وصفاتهم مع طموحهم ليتبوّأوا مكانة بني هاشم، ما آثار فيهم الحسد والبغضاء. وما زاد بلّة في طينهم بَعثة محمد بن عبد الله بن عبد المطلّب صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً لله تعالى، يريد أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم، ويغيّر المعادلات التي كانت حاكمة في مكّة؛ ما يعني تهديداً وجودياً لبني أميّة وتحطيماً لكلّ ما بنوه ويسعون لبنائه، ولهذا أخذوا على عاتقهم مواجهة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدّخروا وسيلة إلّا واستخدموها وصولاً إلى التضييق عليه وإخراجه من مكة.
*مواجهة الدين من الداخل
لكن الله تعالى يريد لكلمته أن تكون هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، ففتح لرسوله مكّة، محطماً أصنام المشركين بسيف عليّ عليه السلام؛ ما اضطرّ بني أمية إلى الدخول في الدين الجديد ركوباً للموجة، وفي محاولة منهم لتخطّي العاصفة ومواجهة الدين من داخله بعد أن عجزوا عن مواجهته من الخارج. ولمّا سنحت لهم الفرصة بعد ارتحال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عملوا على النيل من:
أولاً: الدين نفسه، فجهدوا في تحريفه واختلاق الأكاذيب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وابتداع المعتقدات، مستعينين على ذلك بجمع من أحبار اليهود وجمع من الصحابة الذين وضعوا أنفسهم في خدمة السلاطين.
ثانياً: حملة الدّين والأمناء عليه، الذين نصّبهم الله تعالى هُداة للخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام، وهم الذين كان وجود الدين رهن وجودهم وسلامته رهن سلامتهم.
وقد فهم القوم هذا جيّداً وعلموا أنّهم لن يمكنهم النيل من دين الله إلّا بالنيل من حمَلته، فكان أوّل المستهدفين أمير المؤمنين عليه السلام، فكانوا يثيرون في وجهه المشاكل، إلى أن أمكنتْهم الفرصة منه عليه السلام فمضى إلى الله شهيداً على يد أشقى الأشقياء عبد الرحمن بن ملجم.
*الإمامة الإلهيّة إلى الإمام الحسن عليه السلام
في هذه الظروف الصعبة القاتمة آلت الإمامة الإلهيّة إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام. ففي الشام طاغية يغدر ويفجر ويحسب ذلك دهاءً وحنكة، ويشتري الذمم، ويحرّض على أولياء الله.
أمّا في الكوفة عاصمة الإمامة، فقد كان مجتمعها مجتمعاً مفككاً متناحراً، يفتقر إلى الانسجام حول عقيدة واحدة. وقد انسحب هذا التعدد الفكريّ العقائديّ والتباين السياسي والتفكّك الاجتماعيّ على جيش الإمام الحسن عليه السلام. وقد وصف شيخ الطائفة المفيد قدس سره حال هذا الجيش بقوله: "وبعث حِجْرَ بن عديّ فأمر العمّال بالمسير، واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ثم خفُّوا ومعه أخلاط من الناس: بعضهم شيعة له ولأبيه عليهما السلام، وبعضهم محكّمة (أي خوارج) يؤثرون قتال معاوية بكلّ حيلة بغضاً بمعاوية لا حباً بالحسن، وبعضهم أصحاب فتن وطمع في الغنائم، وبعضهم شكَّاكٌ، لا يرون للحسن أيّ فضيلة على معاوية، وبعضهم أصحاب عصبيّة اتّبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين"(1).
*الإمام الحسن عليه السلام وأعباء حفظ الدين
في هذا المجتمع المفكّك المتهالك، ومع ذلك الجيش المتضعضع، كان على الإمام الحسن عليه السلام أن يقوم بأعباء الإمامة الإلهيّة، وأن يسير قدماً في حفظ دين الله وميراث جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعتبار ذلك المهمّة الأهمّ له كونه إماماً منصوباً من الله تعالى ومعهوداً به إليه، شأنه في ذلك شأن الأئمة الأحد عشر عليهم السلام ممّن سبقه أو سيلحق به، وإن تنوّعت أدوارهم واختلفت إجراءاتهم تبعاً لاختلاف الظروف. وكان عليه أن يتابع مسير أبيه أمير المؤمنين في صراعه مع الناكثين والقاسطين والمارقين، وأبرزهم معاوية الذي تجاوز كلّ الحدود في عدائه للحقّ المتمثل بآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم واستلابه الخلافة ليحوّلها ملكاً عضوضاً وينتقم لبني أمية من محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي حطّم كبرياءهم وعليّ عليه السلام الذي جندل أبطالهم.
لم يكن الإمام الحسن عليه السلام ليقرّ لمعاوية ما هو عليه، لأنّ في إقراره لمعاوية تمكيناً له في سحق دين الله والنيل من ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لهذا نراه يجهّز الجيش لمقاتلة معاوية بعد مراسلات حصلت بينهما كان الإمام يدعوه فيها إلى الإقلاع عن غيّه وظلمه والرجوع إلى طاعة وليّ الله حيث كتب في بعضها: "... فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمرٍ لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكتابه، والله حسيبك، فسترد وتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقَينّ عن قليل ربّك ثم ليجزينّك بما قدّمت يداك، وما الله بظلاّم للعبيد (إلى أنْ يقول) وإنّما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك، ولك في ذلك إنْ فعلته الحظّ الجسيم، والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كلّ أوّاب حفيظ ومن له قلب منيب، واتّق الله ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، فوالله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به، وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين، وإنْ أنت أبيتَ إلا التمادي في غَيّك، سِرتُ إليك بالمسلمين فحاكمتُك، حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين"(2).
*بين خائن وكاره للحرب
فأمّا معاوية الذي كان يعلم جيّداً حال الواقع الكوفيّ، ويعلم حالات الضعف العسكريّ والنفسيّ، ويعلم استعداد كثيرين من جيش الإمام وقادته لبيع ذِممهم بحفنة من الدراهم، فنراه يردّ على رسائل الإمام بردود مخادعة وكاذبة، ويستعدّ للحرب في آن معاً.
يجهز الإمام عليه السلام جيشه لمواجهة معاوية، دفاعاً عن الدين وكرامة الأمة ومكاسبها، ولكنّه جيش كاره للحرب متثاقل، كما وصفه الشيخ المفيد قدس سره. ويسند قيادته إلى عبيد الله بن العباس الذي سار بالجيش يطوي المراحل حتى بلغ منطقة "مسكن" حيث قابل معاوية وجهاً لوجه، ومعاوية يبثّ الإشاعات ويطلق جواسيسه ليشيعوا أنّ الإمام الحسن عليه السلام يراسله للصلح، في محاولةٍ من معاوية للتأثير على الجيش؛ ما أحدث فيه اضطراباً كبيراً. وفي الوقت نفسه، أطلق يده تبذل الأموال الطائلة لقادة الجيش ويمنّيهم بالمناصب لاستمالتهم إليه، ومن هؤلاء عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر وغيرهم كثير، فأجابوه وأخذوا يتسلّلون واحداً تلو الآخر في غلس الليل ووضح النهار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نجد قائد الجيش عبيد الله بن العباس يشتريه معاوية بمليون درهم؛ فيتسلّل عبيد الله هذا في ظلمة الليل البهيم ومعه ثمانية آلاف من الجيش، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه.
ويصبح الصباح فتبحث بقيّة جيش ابن رسول الله عن قائدها ليصلّي بها فلا تجده، فيضطرب الجمع أيّما اضطراب، فينبري قيس بن سعد إلى الناس يخطب فيهم، ويحثّهم على الثبات والصمود، ويتسلم قيادة ما بقي من الجيش، ويسارع إلى مراسلة الإمام الحسن عليه السلام وإخباره بخيانة عبيد الله بن العباس ومَن معه.
*صار جهادُ الإمام بقاءه
ويسارع الإمام عليه السلام بعد اطّلاعه على الرسالة إلى الخروج من الكوفة، قاصداً ملاقاة معاوية ومنازلَته، فيصل إلى جيشه، فيجده وقد خارت قواه وضعُفت همّته، بين كاره للقتال، وطالب للدعة، ومتآمر على الإمام، ومُكَفِّرٍ له، وعازم على اغتياله؛ رجاء نيل الجائزة من معاوية ورضاه.
ويقف الإمام عليه السلام خطيباً في القوم المجتمعة أبدانهم، المتفرّقة قلوبهم وأهواؤهم، ويقول: "ويلكم، والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتْلي، وإنّي أظنّ أنّي إنْ وضعت يدي في يده فأسالمه لم يتركني أدين بدين جدّي، وإنّي أقدر أن أعبد الله عزَّ وجلَّ وحدي، ولكن كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يُسقَون ولا يُطعَمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون"(3).
يقف الإمام عليه السلام ذلك الموقف الرهيب وهو يرى جيشاً خانه أكثره، وقوماً يريدون أن يسلّموه لمعاوية، فيرى وجوب حفظ ما بقي له، لأنّ في بقائه بقاء الدين، وهذا أوجب واجباته كإمام منصوب من الله تعالى.
فسلام الله عليه يوم ولد، ويوم تحمَّل أمانة السماء وضحى في سبيلها، ويوم استشهد، ويوم يبعث حيّاً.
1- الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص10.
2- حياة الإمام الحسن بن علي عليه السلام، باقر شريف القرشي، ج2، ص54.
3- (م.ن)، ص105.