الشيخ محمود كرنيب
على عجل شال شهر لله أواخر أذياله... منسحباً ليشيل معه ذنوبنا إن شاء لله؛ وانسلخ بأيامه ولياليه عنا غير مملول، بل لقد أوحش بعد أنس وودع محملاً بأشواق للقاء في أعوام قادمة. كم سيعظم شوقنا له وللياليه الوافرة النور بالأدعية والمناجاة وتلاوة آيات الكتاب، وسنستوحش لفراق نهاراته المتضوعة بطيب تسبيح الأنفاس. هو شهر كم تمنينا أن يهيمن بسلطانه النوراني بركة على دهرنا كل دهرنا سنواتٍ وأشهراً وأياماً وليالي، وساعات ولحظات... وكم نشعر بالأسى على أزوف رحلته عنا... وكيف لا نأسى على زمن كنا فيه أكرم ضيوف، على أغنى مأدبة عند خير مضيف... وكيف نمل وقد كنا فيه في سياحة في وهاد الأنوار القدسية نعب من ثمار المأدبة الإلهية أغذية الأرواح المخلِّدة...
نعم لقد كنا ضيوفاً أهل كرامة نرتع في رحاب النعم الإلهية المشرعة المترعة، لا ذائد لنا عن لذيذ ألوانها ورحيقها العلوي المختوم إلا فقدان الذائقة وضيق الأوعية جراء ما عببنا من شهوات الجسد المادية، واقترفنا من ذنوب، وجراء ما تغشانا من جهل وأصابنا من قساوة قلوب وأمراضها. نحنُّ إليه حنين الوالهين مشفوعاً بأنين المتوجعين من فراق حبيب قد أبدعته يد العناية الإلهية متداركة بني آدم بلطف قد كان خافياً عليهم فشرعت صياماً أجاعت به الأجساد لتغذو الأرواح... فنحن وطيلة كل عام ننكب على الجسد نطعمه خائفين عليه الجوع والعري والعطش فيما نبقي أرواحنا جائعة عارية فقيرة بلا زاد... نأكل لذيذ الطعام للجسد ونشرب لذيذ الشراب له ونتخير له فاخر الألبسة لنستره أو لنجمله ونزينه بباهظ من المزينات. هذا فيما الروح مطروحة في لحد هو الجسد تَئنُّ من وحشته، رازحة تحت ثقل ظلمته...
وكلما استغرقنا في التهام المشتهيات أهلنا على أرواحنا كفاً من تراب. فقوى الروح لم تتفتح بعد لأنها لم تتشكل بعد، فالذي تشكل هو الجسد، هو الحيوان. فالذائقة هي ذائقة حيوانية لا تعرف إلا حلواً وحامضاً ومراً ومالحاً... الخ. أما ذائقة المعنويات فهي إما في حالة موت، أو تعطيل أو أنها في سبات أين منه سبات الحيوانات الشتوي... هكذا يبدو شهر رمضان، شهر لله، تدبيراً إلهياً استثنائياً كان لينتشلنا من سنة الإستغراق في وحول المادة والماديات؛ ليكشف لنا بعداً آخر من أبعاد وجودنا، مستنبتاً لنا قوى غير قوى الجسد وموقظاً لنا على ملاذ غير التي تعودناها... عبر ذائقة الروح لنعاين بها ما هو ألذ وأبقى من مالح المادة وحلوها وحامضها... ذائقة وقوى موضوعها أبعد من الجسد وأدوم منه وهي الروحانيات والمعنويات والغيب... موضوعها لله... (أجيعوا أكبادكم واعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى لله). ولكن يشتد الأسف أمام بعض الظواهر المرافقة لشهر رمضان وصومه؛ فعلى صعيد المأكل والمشرب تبرز صورة هي عادة مستشرية حيث يمسك الصوام كالعادة نهاراً عن كل طعام وشراب امتثالاً لأمر لله تعالى ولكن إذا امعنت النظر لرأيت الناس في هذه النهارات اعلاماً واعلاناً وحتى في الأحاديث منشغلين في اعداد موائد الإفطار...
فإذا آن أوان الإفطار مشفوعاً بصوت المؤذن؛ ترى هؤلاء الصائمين يغوصون في لجج من الطعام والشراب الذي أبدعته قرائح الطباخين متفننة في طهوه وتزيينه... فكأننا نصوم نهاراً لنعوض في لحظات كل بل أكثر ما كنا نلتهم من مما لذّ وطاب. فهل يا ترى هذا ما كان يريده المولى من ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ وإذا تحولنا عن هذه الصورة اليومية فسنرى أن هناك صورة شهرية هي أسوأ وأقضّ للمضجع من سابقتها... وخلاصتها أننا نعلم في الغالب أن الصوم ليس عن الطعام والشراب، بل هو أيضاً كف للنفس عن كل حرام قولاً كان أو فعلاً أو حتى خلقاً مما يقبح ويشين من السجايا والأخلاق... فنحن نصل في شهر رمضان ما كنا نقطع قبله من رحم، ونبر والدينا بعد عقوق، ونرحم أيتاماً كنا نسقطهم من جدول الاعتبار لدينا؛ ولا ننفك حريصين على بذل المعونة والمساعدة لأهل العوز والفقر والمسكنة والحاجة... فإذا ما هم هلال شوال بالبزوغ أمهلناه ثلاثة من الأيام هي أيام العيد... وبعدها عاد كل منا إلى ما كان عليه، فذو اللسان السليط يفك لجامه؛ وقاطع الرحم يحد مشفر مديته، والعاق يحن إلى عقوقه... ومنعنا الماعون عن فقير ويتيم ومسكين. ولن نلبث إلا أياماً قليلة حتى نعود تماماً كما كنا قبل شهر رمضان ذوي قلوب قاسية مريضة... فكأن الشهر ما كان وكأن الصوم ما كان... وكأن للصوم كما لغيره من العبادات وقتاً لا يفترض أن تتعداه فهناك مواسم منها ما هو للعبادة والطاعة والخلق الحسن؛ ومنها ما هو لغيرها من الأضداد... فهل أنّ الحكمة التي ذكرها لله تعالى في القرآن للصوم والتي يفضي إليها تصلح أن تكون موسمية لا تتعدى شهر رمضان والتي عبر عنها تعالى بـ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾؟.
فهل للتقوى والعبادة موسم؟. أم أن التقوى والعبادة حقيقة هي كل المواسم بالاستفادة من التدبير واللطف الإلهيين الإستثنائيين خلال شهر هو شهر لله؟.