إنّ روح الصلاة تقضي بأن يقوم الإنسان بإصلاح الأرض وإرساء السلام معها ومع كلّ شيء. ففي ظلّ السلام المطلق تظهر أسماء الله كلّها، وتُشرق الأرض بنور ربّها. وإنّ لوجودنا مراتب، وكلّ مرتبة هي بمنزلة المكان الذي تظهر فيه آلاء الله عزّ وجلّ. ولكي تصبح كلّ مرتبة مشعّة بعظمة الحقّ، ينبغي أن نراعي آدابها. فما هي المهمّات المعنويّة الملقاة على عاتقنا تُجاه كلّ مرتبة وكلّ مكان؟
•في معرفة المكان
اعلم أنّ للسالك إلى الله، بحسب النشآت الوجوديّة، أمكنة، ولكلّ منها آداب مخصوصة، ما لم يتّصف السالك بها، لم يتوصّل إلى صلاة أهل المعرفة، وهي:
المكان الأوّل: الطبيعة: وهي النشأة الطبيعيّة والمرتبة الظاهريّة الدنيويّة ومكانها أرض الطبيعة. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"(1). فالسالك في هذه المرتبة أدبه في أن يُفهم قلبَه أنّ نزوله إلى أرض الطبيعة السفلى، لأجل سلوكه الاختياريّ إلى الله وعروجه إلى معراج القرب. فللسالك أن يُفهم نفسه ويذوق بذائقة روحه أنّ دار الطبيعة هي مسجد عبادة الحقّ، وأنّه قَدِم إليها لأجل هذا المقصد، كما يقول الحقّ جلّ وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56).
المكان الثاني: البدن المَلَكيّ: وهي مرتبة القوى الظاهرة والباطنة [هي مجموعة من الصفات أو الميول النفسيّة الباطنيّة] للنفس. وأدب السالك في هذا المقام أن يفهّم باطن قلبه بأنّ أرض طبيعة نفسه هي مسجد الربوبيّة، فلا يُنجّسها بقاذورات تصرّف إبليس. وتكليف السالك في هذا المقام أكثر؛ لأنّ تنظيف المسجد وطهارته أيضاً على عهدته، كما أنّه يتكفّل بنفسه أدب المعتكفين في هذا المسجد.
المكان الثالث: الجسم المثاليّ: وهو النشأة الغيبيّة القلبيّة للسالك. وأدب السالك في هذا المقام أن يذيق نفسه أنّ التفاوت بين هذا المقام والمقامات الأُخَر كثير، وحفظ هذا المقام هو من مهمّات السلوك؛ لأنّ القلب هو إمام المعتكفين في الإنسان، وبفساده يفسد جميعه. وقد كُلّف ببناء المسجد أيضاً بنفسه، ومن الممكن -لا سمح الله- أن يكون مسجده مسجد ضرارٍ وكفرٍ وتفريقٍ بين المسلمين، ولا تجوز في هذا المسجد العبادة، بل يجب تهديمه.
المكان الرابع: المسجد الملكوتيّ: فإذا أسّس السالك المسجد الملكوتيّ الإلهيّ بيد التصرّف الرحمانيّ ويد الولاية، وطهّر بنفسه هذا المسجد من جميع القذارات والتصرّفات الشيطانيّة، واعتكف فيه... فلا بدّ له من أن يجاهد حتّى يخرج نفسه من العكوف في المسجد، ويعتكف بفناء صاحب المسجد.
المكان الخامس: النفس بحقيقتها الوجوديّة: فإذا تطهّر عن التعلّق بالنفس، وخرج عن قيد نفسه، يصير هو بنفسه منزلاً للحقّ، بل مسجداً للربوبيّة، ويثني الحقّ على نفسه في ذاك المسجد بالتجليّات الفعليّة [التوحيد الفعليّ هو أن يتبرّأ السالك من حوله وقوّته]، ثمّ الأسمائيّة [أن يتبرّأ السالك من صفاته فلا يرى جميلاً ولا كاملاً إلّا الله عزّ وجلّ]، ثمّ الذاتيّة [أن يتبرّأ السالك من نسبة الوجود والاستقلال إلى نفسه أو غيره].
•آداب عامّة في جميع النشآت
وللسالك إلى الله في جميع مقامات السلوك مهمّة أخرى، وهي غاية السلوك، وهي أن لا يغفل في جميع الحالات والمقامات عن ذكر الحقّ، ويطلب في جميع المناسك والعبادات معرفة الله، ويطلب الله في جميع المظاهر، وأن يرى روح العبادات والمناسك وباطنها معرفة الله، فيكون هو طلبَه؛ فلعلّه تستحكم في قلبه علقة المحبّة والمحبوبيّة، ويكون مورداً للعنايات الخفيّة.
•في بعض آداب إباحة المكان
إذا فهّم السالك إلى الله نفسه مراتب المكان بحسب المقامات والنشآت الوجوديّة، فعليه أن يجتهد في آدابه القلبيّة لإباحتها حتّى تخرج صلاته من التصرّفات العصبيّة لإبليس الخبيث. فيقوم في المرتبة الأولى بآداب صوريّة للعبوديّة، ويفي بالعهود السابقة في يوم الميثاق، ويبعد يد تصرّف إبليس عن ملك طبيعته، ولا تكون تصرّفاته في عالم الطبيعة غصباً.
•صلاة أهل المعرفة
إنّ إبليس اللعين هو عدوّ الله، وكلّ تصرّف إبليسيّ في عالم الطبيعة جورٌ وغصب؛ فالسالك إلى الله، إن أخرج نفسه من تصرّفات ذلك الخبيث، يكون تصرّفه تصرّفاً رحمانيّاً، ويباح ويطهر مكانه وملبسه ومطعمه. وبمقدار ما يقع تحت تصرّف إبليس، يخرج عن الحلّيّة ويكون فيه شرك الشيطان. فإذا وقعت الأعضاء الظاهرة للإنسان تحت تصرف إبليس، تكون أعضاؤه إبليسيّة، ويكون غاصباً لمملكة الحقّ. فإذا قصّر يد الشيطان عن مملكة القلب، الذي هو منزل خاصّ للحقّ تعالى، وخلّص قلبه لتجلّياته، ولا يترك أحداً غير الحقّ يتطرّق إليه -فإنّ غير الحقّ إبليس الطريق- يُباح له المساجد الظاهرة والباطنة، وتكون صلاته صلاة أهل المعرفة. وتتّضح بهذا الميزان طهارة المسجد أيضاً.
(*) مقتبس من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، باب الآداب المعنويّة لمكان المصلّي (بتصرّف).
1.شرح العروة الوثقى، البروجردي، ص54.