أحمد بزّي
•(20 صفر- عام 64 للهجرة- عند منتصف الليل)
"اسمعوني جيّداً، لا يُمكنُ لأحدٍ أن يُغيِّرَ وجه مكّة. هي قطبُ الحياة في جزيرةِ العرب، وستبقى كذلك. عليكم أن تنسوا تلك السنوات التي زاحمتْ فيها مدنٌ أخرى سيادة مكّة، كيثرب أو الكوفة والبصرة. ولا مجدَ إلى جانبِ مكّة سوى لقصر الخضراءِ في الشام".
بفائضِ القوَّة هذه، وقف والي مكّة عمرو بن سعيد بن العاص خطيباً فينا بعد وصول أنباءِ ما جرى في كربلاء منذ ثلاث سنوات.
يومها، استمع الناسُ هنا للخطاب وهم هامدون كالسكارى، لم يجرؤ أحدٌ على البكاء حتّى. ما زال الجميع مُستكيناً مُسالماً كما كانت حالهم يوم قَدِمَ الحسين إلينا أوائل شعبان عام 60 للهجرة.
لقد جلس حفيد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بيننا خمسة وعشرين يوماً ومئة، ولم يغيّر بقاؤه فينا شيئاً. زاره أهل مكّة كلّهم، وهم يحملون إليه موقفاً واحداً اجتمعوا عليه من دون أن ينسِّقوه فيما بينهم: "بايع، ولا تخرج على يزيد، فإنّا نخافُ عليك من الهلاك".
أنا بنفسي مضيتُ إليه بعد الإفطار في منتصف شهر رمضان مُتخماً تجرُّني بطني وأحملها بكلتا يديَّ، وصلتُ إلى داره في الشعب لاهثاً، فلم أصعد مرتفعاً منذ زمنٍ بعيد. وبما تبقّى فيَّ من أنفاسٍ، نصحته أن لا يخرجَ على يزيد، وقلت له: "العالم كلّه بايع، لِمَ لا تبايع؟ فلتصالح أو ارجع إلى المدينة"، لكنّه أبى.
الناسُ هنا في مكّة معظمهم من التجّار، تعرفهم من أزيائهم، يتباهون بعدد الخواتم في أصابعهم، وسلاسل الفضّة الطويلة في أعناقهم. يتاجرون في كلّ شيء حتّى بالموقف والكلمة، فيُمكن للنسّاخ والكتّاب والشعراء أن يخطّوا أيّ شيءٍ يريده أصحاب المال. والجزء الآخر من المقيمين في مكّة هم ممَّن وفدوا إليها بعدما اعتنقوا الإسلام في زمن الفتوحات، ما يعني أنَّ عودَهم طريّ كما يصفهم أبناء القبائل المكّيّة.
بدأ هؤلاء بالسكن في مكّة منذ أكثر من ثلاثين سنة. كنتُ شاهداً يوم باع أبي أرضاً صغيرة كنّا نملكها بالقرب من شِعْب أبي طالب. يومها، ذرفتْ أمّي أغزر دموع رأيتها طوال عمري. لقد باعها بسعرٍ مرتفعٍ جدّاً لرجلٍ أحبَّ أن يقيم بجوارِ الكعبة بعد أن أسلم. ثمَّ اشترينا بدلاً منها أراضي شاسعةً في الكوفة، وبنينا قصراً ملأه أبي لي ولإخوتي بالجواري والخدم، وتزوّج بامرأةٍ من القادسيّة، وأسكنها أكبر غرف القصر.
أذكرُ أنّه في تلك الفترة، برزت تجارة الأراضي والمنازل بشكلٍ كبيرٍ في مكّة والمدينة، فلحق بنا سائر أبناء عشيرتنا، حتّى إنّ أبي صار يبيعهم من الأراضي التي اشتراها في الكوفة بربحٍ وفير. المنفعة الذاتيّة كانت أكثر ما يسعى إليه شيوخ العشائر. كان ذلك فخراً وليس عيباً.
عندما كنّا صغاراً، كنّا نعرف أنَّ في مكّة ثلاثة تجّار لا يمكن لأحدٍ أن يخالف لهم رأياً، فهم من حوّل سوق مكّة من سوق محلّيّة إلى حاضرة للتجارة العالميّة على حدِّ زعمهم. لقد أنشأوا مثلّث المال المكوّن من أبي سفيان من بني أميّة، وأبي جهل من بني مخزوم، وأبي لهب من بني هاشم. وهؤلاء المستأثرون الثلاثة كانوا أشدّ الناس حرصاً على أمن مكّة حفاظاً على مصالحهم وحظوظهم وسيطرتهم على المجتمع. وبالفعل، لقد سيطروا على جوانب الحياة في مكّة كلّها، وعطّلوا دار الندوة التي تشبه الحكومة المصغّرة لمكّة.
هذا الاستئثار بالقرار، عمِل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على حلّه بعد فتح مكّة. القبائل كلّها تشهد على ذلك. فقد أقام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تسعة عشر يوماً بجانب الكعبة، وفيها بدأ سعيه الدؤوب لتغيير الحال البائسة. كانت العقبة الكؤود أمامه هي استبداد زعماء القبائل، وتحكُّمهم بسائر مناحي الحياة. ومن الأيّام الأولى للانتصار، أعلن أنّ الولاء للقبيلة أصبح من الماضي، والولاء اليوم هو للإسلام وللأخوّة بين المسلمين.
لكنّني مع الوقت صرت أكتشف أنّ مكّة التي سقطت من دون قتال، قد أذعن مشركوها لحكم النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالظاهر، ولم يرافق إقرارهم أيّ تسليم قلبيّ واعتقاد بالإسلام. ففي آخر حياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، تمرّدت قبيلتنا؛ لأنّ شيوخها لم يستفيدوا من عدل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، بعكس ما كان يغدق به عليهم أبو سفيان، فارتدَّ العشرات منها عن دينهم.
وبعد رحيل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخمسين سنة، دخل حفيده الحسين عليه السلام ملتجئاً إلى حرمها. هبط في شِعب عليّ عليه السلام، ونزل في دار العبّاس بن عبد المطلّب. فرح الناس لقدومه فرحاً شديداً، وأخذوا يتردّدون على مجلسه صباحاً ومساءً. وكذا فعل الحُجّاج والمعتمرون.
لكنّنا لم نكن في مكّة أوفياء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام ورسالته، وقد عادت أمّ القرى بنا إلى ماضيها الجاهليّ في الولاء. سكتنا عن غصب يزيد لموقع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولم نرد الثورة مع الحسين عليه السلام، بل أردنا التسوية وترك الصدام مع السلطة، حتّى إنّ والي مكّة الذي أعلن بيان بني أميّة الممجّد لقصر الخضراء، كان خاتم الناصحين للحسين بعدم الخروج إلى العراق. وأنا الحقير أوصلت للحسين كتاب النصح بيدي، فدعاني إلى نصرته، لكنّني آثرت الصعود إلى عرفات لأدعو الله، وتركتُ باب الله الذي منه يؤتى، ولم أنصره لآخرتي.
أكتب هذا كلّه لأنّني الليلة بكيتُ دموعاً تعادل ندم فرعون وهو في اليمّ. عشنا أعمارنا في مكّة ننأى بأنفسنا عن نصرة آل نبيّنا، ولم تردعنا واقعة كربلاء منذ ثلاث سنوات، ولا واقعة الحرّة في السنة الماضية، يوم أباح يزيد دماء أهل المدينة المنوّرة.
اليوم أكتبُ وقد رأيتُ الكعبة تُرمى بالمنجنيق، واشتعلت النيران حولها حتّى اشتملت على أستارها ووصلت إلى سقفها، ونحن على عادتنا، كنّا شهود زور.