الشيخ محمد حسن زراقط
تستخدم في اللغة العربية كما في غيرها من اللغات مجموعةٌ من الكلمات للدلالة على الاشتراك في هدفٍ، أو معتقدٍ، أو عملٍ، أو ما شابه من وجوه الشراكة التي تتمّ بشكلٍ اختياريّ بين الناس من خلال التحاق الشخص بجماعة للعمل معها من أجل هدف مشترك أو أهداف كذلك. فيعبَّر عن المتعاون مع آخر في تجارة بالشريك، وعن الشريك في عمل أو مهنة بالزميل، وعن الشريك في حزب سياسي بالرفيق، إلى غير ذلك من التعابير التي يتم اختيارها وفق أسس تختلف من جماعة أو بيئة إلى أخرى. وأمّا الإسلام، فقد اختار مصطلح الأخوَّة للدلالة على الاشتراك في اعتناق عقيدة الإسلام. وقد صرّحت بذلك نصوص شرعيّة عدّة منها بعض آيات القرآن، ومنها بعض الوقائع التي نقلها المؤرخون، كقضيّة المؤاخاة في المدينة بين المهاجرين والأنصار. وقد وردت في القرآن آيات عدة تؤكد حقيقة الأخوّة في الإسلام، نكتفي بواحدةٍ منها هي قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 10).
دلالات الأخوّة الإسلامية:
يشتمل مصطلح الأخوّة الإسلامية على مجموعة معانٍ سوف أحاول استكشافها بالتركيز على مفهوم الأخوة نفسه، وسوف أكتفي بتشريح المصطلح المستخدم في آيات القرآن الكريم، وخاصة الآية الأولى منها، وربط هذا المصطلح بما ورد في الشريعة الإسلامية والنظام الأخلاقي المشتق منها، وأبرز هذه المعاني ما يأتي:
1ـ المساواة:
تستفاد ضرورة المساواة من نفس مصطلح الأخوّة؛ فإنّ الأخوّة في اللغة هي اشتراك شخصين في أبٍ وأمّ وتساويهما في الارتباط في الأصل المشترك. ويكفي التأمل في مفهوم الأخ حتّى يكتشف هذا المعنى ليبنى عليه سائر ما يرتبط به من آداب وتشريعات. وتوضيح ذلك أن التمييز الطبقي بين الناس يستند إلى أسس منها الوضع الاجتماعي، ومنها الوضع المادي، ومنها النسب، إلى سائر ما يحاول الناس التفاضل والتمايز فيه. ولكن أكثر أشكال التمايز هذه يقل بل ربما ينعدم تحققه بين الإخوة، فإن الأخ وأخاه من وسط اجتماعي واحد، وهما يتقاربان عادة في الوضع المالي إلا إذا بغى أحدهما على الآخر فأخذ القسط الأكبر من مال أبيه. وهكذا، فإن الحالة الأصلية للإخوة أن يكونوا متساوين. ومن هنا، إذا وجدنا شخصاً غنياً بين إخوة فقراء نستغرب ونسأل عن السبب، وإذا وجدنا متعلماً بين إخوة أميين نسأل عن السبب، وهكذا. والمساواة المطلوبة بين الإخوة في الإيمان تكون على مستويين: مساواة الأخ بالنفس، ويدلّ عليها ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1)، والمستوى الثاني من المساواة بين الإخوة في الإيمان هو عدم التمييز بينهم في المعاملات، ويدلّ عليها ما ورد في آداب التجارة حول استحباب المساواة في الأسعار بين المسلمين، يقول الشهيد الثاني أثناء تعداده لآداب البيع والتجارة: "وأن يسوي بين المبتاعين في الإنصاف، بمعنى أنه لا يفاوت بينهم بسبب المماكسة وعدمها ولا بين الصغير والكبير ونحوهما، أما لو فاوت بينهما بسبب الفضل والدين، فلا بأس"(2).
وما ورد حول المساواة بين الإخوة في الإيمان كثير لا مجال لاستعراضه في مثل هذه المقالة المختصرة. وبالعودة إلى الآيات المدرجة أعلاه، نجد أنّها تدل على المساواة بين الإخوة من خلال دعوتها إلى الإصلاح بينهم قبل البحث عن المحقّ منهما والمبطل، وكأنها تقول يجب أن تعود حالة الأخوة بين المسلمين أولاً ثم بعد استقرار الحال يبحث عن صاحب الحق فيعطى حقه. وكذلك الآية الثانية التي تشير إلى مخالطة الأيتام وكونهم إخوة في الدين وعدم استغلال يتمهم للعدوان عليهم، وكذلك الآية التي تدعو إلى التآخي مع الذين لا يعلم آباؤهم.
2ـ الثبات:
الخصوصيّة الثانية التي تستفاد من الآية حول مفهوم الأخوّة هي الثبات وعدم انقطاع هذه الصلة وعدم جواز اختيار قطعها، وتوضيح ذلك أنّ الله وصف المؤمنين بأنّهم إخوة ولم يصفهم بوصف آخر، فإنّ الشركاء تنقطع العلاقة بينهم بفسخ الشركة، والزملاء تنقطع صلة أحدهم بالآخر بتوقّف أحدهم عن العمل، والرفقاء تنتهي علاقتهم بالوصول إلى المقصد، وهكذا وأمّا الأخوّة فهي علاقة لا تنقطع حتّى بالموت، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم:﴿ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحشر: 10). وهذه الآية تكشف عن بقاء الأخوة حتى بعد الموت؛ لأنها تتحدث عن جماعة جاؤوا من بعد جماعة أخرى ولكنهم يدعون لهم بلسان طلب المغفرة لإخوتهم الذين سبقوهم بالإيمان.
3ـ التضامن والنصرة:
ومن المعاني التي يتضمنها مفهوم الأخوّة التضامن والنصرة، والمساعدة على حل المشكلات والصعوبات التي يواجهها الأخ. وتنتج هذه الحالة عن التربية المشتركة التي يتلقاها الأخوان أو الإخوة في العائلة الواحدة، كما من حاجة أحدهما إلى الآخر في صغرهما؛ الأمر الذي يدعوهما إلى التعاون على تحقيق الأغراض الصغيرة المتواضعة داخل الأسرة. ولست أنسى مشهد أخوين صغيرين في سن مبكرة ينام أحدهما أرضاً ليرتقي الآخر على ظهره ليستطيع مشاهدة الطريق من شرفة المنزل، ثم يقوم فيحل الذي شاهد محله ليسمح له برؤية ما رأى وهكذا...
وتستمر حالة التعاون أو تنكسر وفق تضارب المصالح أو انسجامها على الكبر. وما يريده الإسلام هو أن تبقى حالة التعاون لتحقيق المصالح المشتركة والتوفيق بين المصالح المتعارضة، فلا يسمح لها بالتحول إلى منشأ للخلاف والاضطراب. وهذا ما تؤكده الآية حيث تدعو إلى الإصلاح بين الأخوين وعدم السماح لهما بمواصلة النزاع كما لا تدعو في الوهلة الأولى إلى أخذ جانب أحد الطرفين، إلا إذا كان مبغياً عليه وكان الآخر باغياً، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(الحجرات: 9). إذاً الحل الأمثل هو الإصلاح ولكن إذا تعذر ذلك، فلا بد من إعادة الأمور إلى نصابها ولو بقتال الطرف المعتدي والباغي إن لم تنفع محاولات الإصلاح في وقف القتال. وما أجمل تعبير رسول الله صلى الله عليه وآله عن التضامن بتشبيه المسلمين بتوادهم وتراحمهم بالجسد الواحد الذي يتداعى أحد أعضائه بالسهر والحمى عند إصابة عضو آخر بمكروه، أو دعوته إلى نصرة الأخ على كل حال ظالماً كان أو مظلوماً، برد الظلم عنه أو بكف يده عن ظلم الناس.
4- الخصوصية الرابعة من خصوصيّات الأخوة الإسلامية هي شبهها للأخوّة النسبية في عدم خضوعها لاختيار الشخص نفسه؛ وذلك أن الإنسان يكون مؤمناً بالإسلام باختياره، فلا إكراه في الدين بعد تبين الرشد من الغي كما تعبر الآية الشريفة، ولكن بعد أن يختار الإسلام لا يستطيع رفض اختيار إخوته، فبدخوله في الإسلام يكون قد اختار إخوته وعشيرته بشكل اضطراراي. والفرق بين الأخوّتين أن الأخوة النسبية غير خاضعة لاختيار الإنسان بأي شكل من الأشكال، وأما أخوّة الإيمان فإنّها اختياريّة في مقدّماتها ومراحلها الأولى وهي اختيار الإيمان، وأخيراً عندما تتعارض الأخوّة النسبية مع الأخوّة في الإيمان يقدم الإسلام أخوّة الإيمان على ما سواها، ويدل على ذلك قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة: 23).
الخاتمة:
هذه بعض المضامين التي يستوعبها مفهوم الأخوة الوارد في القرآن الكريم وفي الروايات عن النبي صلى الله عليه وآله، وأهل بيته عليهم السلام. ولا يتسع المقام للدخول في كثير من التفاصيل التي تحتاج إلى صفحات طوال، ولكني أختار مسك الختام نقل رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وهي قوله: "للمسلم على المسلم ثلاثون حقاً، لا براءة له منها إلا بالأداء أو العفو: يغفر زلّتَه، ويرحم عبرتَه، ويستر عورتَه، ويقيل عثرتَه، ويقبل معذرتَه، ويردّ غيبتَه، ويديم نصيحتَه، ويحفظ خلّتَه، ويرعى ذمّتَه، ويشكر نعمتَه، ويحسن نصرتَه، ويحفظ حليلتَه، ويقضي حاجتَه، ويشفع مسألتَه، ويسمت عطستَه، ويرشد ضالتَه، ويرد سلامَه، ويطيب كلامَه، ويبر إنعامَه، ويصدق أقسامَه، ويوالي وليَّه، وينصره ظالماً ومظلوماً، فأمّا نصرته ظالماً فيردّه عن ظلمه، وأمّا نصرته مظلوماً فيعينه على أخذ حقه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه....."(3).
(1) وصفه الشهيد الثاني في كتابه منية المريد بأنّه من صحيح الأخبار؛ انظر: منية المريد، تحقيق رضا المختاري، الطبعة الأولى، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1409هـ، ص190.
(2) زين الدين بن علي العاملي، مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام، الطبعة الأولى، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم، 1414هـ، ج3، ص183.
(3)الحر العاملي، وسائل الشيعة، طبعة مؤسسة آل البيت، ج12، ص 212.