الشيخ غالب كجك
يعلّمنا الإسلام أن ننظر إلى كلّ الوجود نظرة إيجابية، ويدفعنا إلى التفاعل الإيجابي مع المحيط القريب وكذلك البعيد بكلّ مكوّناته وتفاصيله، الجامدة والنامية، وذات الشعور وغيرها.فلندقّق في هذه الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191)، لنستفيد منها معنى ضرورة أن نجد أنفسنا في منظومة متناغمة ومتكاملة مع هذا المحيط الكوني الواسع، فإذا وصلت النوبة للإنسان ازداد تأكيد الإسلام على أهمية وجود هذا التناغم بين الإنسان وأخيه الإنسان الذي بيّنه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأم، وإذا ضرب على رجل منهم عرق سهر له الآخرون"(1).
*أخ لك ونظير
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: "ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"(2). فالحد الأدنى -والذي هو بحد ذاته أمر عظيم جداً- الذي يشترك فيه الإنسان مع إنسان آخر، كائناً من كان، هو التماثل في الإنسانية، والنفس والروح البشرية.
يضاف إلى ذلك، الاشتراك في الإيمان والدين السماوي، ألا وهو الإسلام، إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ{ (الحجرات: 10)، فأعطى بذلك قيمةً مضافة إلى الإنسانيّة أي قيمة الإسلام والإيمان التي هي بهذا النظر من أوثق العُرى والروابط بين البشر.
*أُخوَّة في الله
فالعقيدة والفكر، خصوصاً الفكر الديني، هما اللذان يشكّلان الدافع الأساس والحافز الأعظم لدى المؤمنين بالدين وبالإسلام. فمثلاً، يمكن للإنسان أن يبخل بماله لكنه يسخى به إذا كان في سبيل الله. ويمكن لمؤمن أن يمتنع عن العطاء، ولكنه يدفع المال حينما يؤدي فريضة الخمس مثلاً... وهكذا. فالعقيدة هي دافع قوي في الأصول والفروع والأخلاق والسلوك. ومن هنا تتّحد الدوافع إذا اشترك المؤمنون في الإيمان والدين الواحد ليكونوا كما قال الإمام الصادق عليه السلام: "المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه، ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه"(3).
والإمام علي عليه السلام نادى مرةً مفتخراً بصفات أخٍ له في الله، واعتبره نموذجاً يُحتذى به في المجتمع: "كان لي فيما مضى أخٌ في الله، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه.. وكان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يُكثر إذا وجد وكان أكثر دهره صامتاً.."(4)، إلى آخر كلامه عليه السلام الذي بيّن فيه عليه السلام طائفة كبرى من الصفات والمُثل والسلوكيات التي يرى أنها تجعل من حاملها أخاً له في الله تعالى.
*ما يرسّخ الأخوّة
والسبب في ترسيخ هذه الأُخوَّة هو الأخلاق والسلوك الحسن، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن المؤمن ليسكن إلى المؤمن كما يسكن قلب الظمآن إلى الماء البارد"(5). فقد يلتقي المؤمن والمؤمن الآخر على الأُخوَّة في الإسلام، وهذا ما يدفعهما إلى الالتقاء معاً في سبيل الدفاع عن المقدّسات الإسلامية الكبرى.
*الأخلاق هي العلاقة الخاصّة
إلا أن ما يعزّز الأُخوَّة بمعناها الأخص -وأقصد هنا العلاقة الخاصة بين الأُخوَّة في الجانب الاجتماعي وجانب العشرة فيما بينهم- هو الأخلاق. وهذا الأمر يرتكز على الأخلاق الجيدة والإيجابية، وتتجلّى فيها الأُخوَّة الإيمانية بصورة بهيّة وجميلة فتجعل الإنسان يأنس بعقيدته ودينه ويعتزّ بها ويفخر بالانتماء إليها لما يرى من تعاون وتعاضد المؤمنين فيما بينهم. ومن هنا روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "إنما المؤمنون في تراحمهم وتعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(6).
فالمودة والرحمة عنصران أساسيّان ذكرهما الحديث الشريف. فالأول: أي المودّة، هو أن يكون الإنسان محبّاً حقيقيّاً لأخيه المؤمن، وهذا ما لا يحتاج إلى كثير مؤونة، يكفيه فيه أن يضمر اتجاهه الخير، وأنه إن استطاع أن يقدّم له المواساة والمعرفة والراحة لفَعل دون تردد.
ثم العنصر الثاني: الرحمة، لأنّ المحبة فعل مبادرة، ويصدُر ابتداءً، ولكن ذلك وحده ليس كافياً وليس ضمانة وافيةً، بل إنّ هناك أمراً آخرَ لا بدّ من تحقّقه لكي تكتمل الصورة، وهو الرحمة. والرحمة هنا عنوان كثيرٍ من القيم التي تأتي في سياق ردّ الأذى أو استيعاب الوقائع. فالتسامح رحمة، والحلم رحمة، وتفهّم الآخر رحمة، والعفو رحمة، وذلك كلّه في سياق استكمال رحلة الأُخوَّة الخاصّة فيما بين المؤمنين.
*المؤاخاة بين المؤمنين
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار؛ فاتّخذ كل أنصاري مهاجراً أخاً له بمعنى أن تكون بينهما علاقة خاصة، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا آخى أحدكم رجلاً فليسأله عن اسمه واسم أبيه وقبيلته ومنزله، فإنه من واجب الحقّ وصافي الإخاء، وإلا فهي مودّة حمقاء"(7).
واتّخذ محمد صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام أخاً له في ذلك اليوم المشهود. وقد قصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك تعميق أواصر العلاقة، وأن تأخذ بعداً حياتياً حيوياً. ولكي تتناغم العلاقة الأخويّة الخاصّة فيما بينهم، رعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الملكات لدى المتآخيين، ولأن لا أحد يملك كفاءات وملاكات تتناسب مع حجم الأُخوَّة مع ذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بينه وبين علي بن أبي طالب عليه السلام.
*الآثار الاجتماعية والفردية
بعدما كانت الأخوّة الإيمانيّة القرآنيّة تشكّل منطلقاً للوعي الديني ولممارسته العملية بين الإخوة، وتحقّق التناغم فيما بين المؤمنين، صار من الحتمي أن تترك الأُخوَّة بصماتها الواضحة على المجتمع في علاقة جدليّة، فكلّما زيد في العلاقة الأخويّة بين المؤمنين ظهر إلى حيز الوجود ما يمكن تسميته بالمجتمع الأخوي، أو الأُخوَّة الاجتماعية.
ولهذا المجتمع تجلياته الخاصّة وشعائره الإسلامية المشتركة، لا سيما المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام كشعائر عزاء الإمام الحسين عليه السلام في شهر محرم الحرام وغيرها من المناسبات التي تترك عظيم الأثر وتبقى في الذاكرة منذ طفولة الفرد لتتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل.
أضف إلى ذلك الآثار الاجتماعية العظيمة للأُخوَّة والتي تنبع من منظومة القيم الموحدة، إذ نرى أن الأُخوّة على الصعيد الفردي تدفع عن الإنسان الشعور بالقنوط واليأس والملل، وتجعل من الفرد إنساناً قادراً على إشباع احتياجاته الروحية من خلال علاقته مع إخوانه المؤمنين. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في ذلك قوله: "الإخوان ثلاثة: فواحد كالغذاء الذي يحتاج إليه كل وقت فهو العاقل، والثاني في معنى الداء وهو الأحمق، والثالث في معنى الدواء فهو اللبيب"(8).
فالفرد الذي يعيش الأخوّة يأخذ ويعطي، ويتفاعل مع محيطه، ولا يقنط ولا ييأس ولا يعيش الفراغ في داخله، ولا انسداد الأفق في واقعه. لذلك فلا يوجد في الجو الأخوي والإيماني إنسان يصل إلى اليأس والقنوط كما يحصل في المجتمعات المادية، على سبيل المثال.