الشيخ إسماعيل حريري (*)
الحريّة كلمة لها وقعها الخاص ورنينها الجذّاب في أسماع النّاس. وهي كلمة يتغنّى بها كل إنسان سواء على مستوى حريّته الفرديّة أم حريّة مجتمعه وبلده، بلا فرق بين متعلَّق هذه الحريّة، سياسياً كان أم اقتصاديّاً، فكريّاً كان أم اجتماعيّاً أم غير ذلك من أصناف هذه الحريّة.
* فطرة الحرية
فمفهوم الحريّة كعنوان عام هو شعارٌ إنسانّي يتمسّك به جميعُ بني الإنسان على اختلاف مشاربهم وعقائدهم والتزاماتهم الفكريّة، مما يعني وبشكل واضح أنّ الفطرة الإنسانيّة تنادي بحريّة الإنسان بجميع جوانبها، فلا يمكن أن يكون الإنسان عبداً لإنسان آخر في أيّ شيء. ولو نظرنا في النصوص الشرعيّة لوجدناها تناصر الفطرة وتؤكدُها، فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "أيها النّاس، إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمةً، وإنَّ النّاس كلّهم أحرارٌ"(1). بل ورد النهي عن العبوديّة للآخرين كما في قوله عليه السلام : "لا تكوننَّ عبد غيرك وقد جعلك الله سبحانه حرّاً"(2). ثمَّ أمام هذا التشديد - إسلاميّاً وإنسانياً - على حريّة الإنسان يتساءل المرء: هل لهذه الحريّة الفرديّة حدودٌ تقف عندها في ممارسات الإنسان وسلوكيّاته مع الآخرين؟ وإذا كانت، فما هي هذه الحدود؟ أسئلة تطرح بين النّاس في السرّ والعلن. فنقول:
* للحرية حدود
أولاً: ممَّا لا شك فيه عند كل عاقل لبيب أنّ الحريّة الفرديّة لها حدود. وهذا لا يتنافى مع كونها حريّة، إذ الحريّة لكلّ فرد لا بُدَّ من أن تتناسب وتتواءم مع حريّة غيره من البشر، وعليه أن يراعي ذلك في سلوكياته. ولذلك لا نرى أحداً يتبنّى فكرة الحريّة المطلقة إلى حدّ التعدّي على حريّات الآخرين إلاَّ أن يكون طاغوتاً جباراً، فيكون بذلك خارجاً عن الفطرة الإنسانية فضلاً عن التوجيهات الدينيّة والالتزامات الإلهيّة.
ثانياً: إنّ حدود الحريّة الفرديّة بالفهم الديني والإنساني تعني أنّ الإنسان له حريّة التصرّف والسلوك بما لا يؤثر على أفراد مجتمعه ممَّا يسلبهم حقَّ الحريّة أيضاً. ونمثل لذلك بمثالين:
ـ الأوَّل: إنّ الدين والعقل والحس الإنساني تتوافق جميعاً على أنَّ للإنسان حريّة التصرّف فيما يملكه من أموال منقولة وغير منقولة، سواءٌ بصرفها أو بنقل ملكيتها إلى غيره بعوضٍ أو بغير عوض، والمبدأ الإسلامي في ذلك الحديث النبويّ المشهور: "النّاس مسلّطون على أموالهم"(3). وفي الوقت عينه ليس له حريّة التصرّف في أموال غيره إلاَّ بإذن ذلك الغير، ورضاه وإلاَّ عُدَّ غاصباً متعدّياً وضامناً لما تصرّف به، والمبدأ الإسلامي في ذلك أيضاً ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وآله: "لا يحلَّ مال امرئ مسلم إلاَّ عن طيب نفسه"(4).
ـ الثاني: إنّ من حدود حريّة الإنسان مع الآخرين إن لم يكن أهمّها الوقوف عند كرامات الآخرين، والابتعاد عن أذيّتهم وظلمهم، فإنّ الكرامة والعزّة للإنسان هي أغلى عنده من الدنيا وما فيها، بل مقتضى إنسانيّة الإنسان أن يكون عزيزاً لا يصيبه ذلّ، وكريماً لا تصيبه مهانة. ولذلك نجد أنّ سيد الشهداء عليه السلام خاطب جيش الكفر والنّفاق بحريّتهم بعدما لم يرتدعوا بالدين فقال عليه السلام : "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم"(5). وكم نرى في عصرنا هذا من كرامات تُهتك وعزيزي أقوامٍ يُذلّون باسم الحريّة الحديثة والديمقراطية المزيّفة. بينما نرى الإسلام العظيم يؤكّد على هذه الحريّة التي تحفظ الكرامات وتمنع هدرها لمطلق إنسان محترم النفس، وهذا ما عبَّرت عنه الكلمة الراقية لأمير المؤمنين عليه السلام : "النّاس صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"(6). وهذا النظير لك في الخلق وإن لم يكن على دينك هو أخوك في الإنسانيّة، وهذا يفرض عليك أن تراعي فيه حقوق الإنسان من حفظ الكرامة والعزّة واحترام نفسه وماله وعياله ما لم يعتدِ عليك، فيكون له حكم المعتدي الذي له عقابه وجزاؤه في الدين والقانون الإنساني عموماً.
* آثار الحرية
من الواضح بعد ما تقدّم أن ندرك الفرق بين من يمارس حريّة مطلقة يتعدّى فيها على حريّة الآخرين، وبين من يمارس حريّته من خلال حفظ حريّات الآخرين، فإنّ الانعكاسات السلبيّة من الأوَّل والإيجابيّة من الثاني تؤثر على ذات الشخص وعلى الآخرين في مجتمعه. وتوضيح ذلك: إنّ المجتمعات التي يقوم أفرادها بالاستفادة من حقوقهم وممارسة حريّاتهم التي مُنحت لهم بشكل إيجابي هي مجتمعات تعيش أفضل حالات الراحة والتآلف والتعاضد، ولا يرى الإنسان نفسه فيها مقهوراً مهضوم الحقّ ومستعبداً، ولذلك يسعى بكلّ قوّته وقدرته لدفع مجتمعه قُدُماً نحو الأفضل لأنه يرى فيه سعادته وراحته وهناءه، بل تمام الاطمئنان النفسي الذي يجعل الإنسان ينطلق بكلّ طاقته لخدمة أفراد مجتمعه أجمع، بل إنّ الإنسان الذي يمارس هكذا حريّة إيجابيّة يستفيد شخصياً بالدرجة الأولى لأنّه بذلك يكون قد تحاشى العداوات وتجنّب المخاصمات مع من تعدّى هو على حريتّه، وهو ما أشار إليه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "من كفّ يده عن النّاس فإنما يكفّ عنهم يداً واحدة ويكفّون عنه أيادي كثيرة"(7). ولأنّ القلب مجبولٌ على حبّ من أحسن إليه وبغض من أساء إليه، فإنّ من يُحسن إلى الآخرين - في أيّ موقعٍ كان - من خلال حفظ حقوقهم وعدم التعدّي على حرياتهم سيُقابل بالحبّ والحسنى وحفظ الجميل وقد قال الله تعالى: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان﴾ (الرحمن). ثم إنّ من الآثار السلبيّة المترتّبة على السلوك السيّء لأصحاب الحريّة السلبيّة في الدنيا أنّ ظلمهم للنّاس - والظلم هو التعدّي على حقوق الآخرين - يؤدي إلى زوال النعم عنهم وعمّن شايعهم وتابعهم، بل عن المجتمع ككلّ، فعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "بالظلم تزول النعم"(8)، وقد قيل: "الظلم مرتعه وخيم"(9). وفي الآخرة هو ظلمات، فعن رسول صلى الله عليه وآله قال: "اتقوا الظلم فإنّه ظلمات يوم القيامة"(10).
* الحريّة الفرديّة في العصر الحاضر
لهذه الحريّة مفهوم خاطىء في أذهان كثير من النّاس ينطلق من مقولة أنّ للإنسان أن يفعل ويقول ما يشاء، كيف يشاء ومتى يشاء، ومن يعارضه وينتقده يكن معادياً لحريّة التعبير والفكر والفعل. وهذا من مفاسد هذا العصر الكثيرة التي يجب أن تواجه، لا سيّما في أوساط المسلمين التي تأثرت بشكل كبير بهذه المفاهيم المشوّهة، حتى باتت المقدسات تحت غطاء الحرية الفردية في التعبير تنتهك والحُرمات ترتكب، والكرامات تُهان، فتحت غطاء هذه الحريّة ترتكب الرذائل والفواحش أمام أعين الناس دون أيّ نكير، بل بتأييد وتشجيع من أدعياء هذه الحريّة القبيحة، والمعترض متخلّفٌ معادٍ للحريّة.
* مواجهة الإسلام للحريّة السلبيّة:
إذا نظرنا إلى الإسلام وهو الدين الكامل المتكامل نرى كم حارب الحريّة السلبيّة وعمل على استئصالها من المجتمع. وقد ورد في سبيل ذلك الكثير من الآيات والروايات نقتصر على ذكر رواية واحدة مع حادثتها لما لها من الأثر الإيجابي، فقد ورد أنّه كان لشخص يدعى سمرة بن جندب عِذقُ(11) نخل في بستان رجل أنصاري، وكان كلّما أراد سمرة أن يمرّ إلى نخلته يعبر بيت الأنصاري، والأنصاري يطلب منه أن يستأذن في كلِّ مرّة لوجود عياله وأهله في البيت، ولم يكن يفعل سمرة ذلك، حتى تأذّى منه الأنصاري، فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فطلب الرسول صلى الله عليه وآله من سمرة أن يستأذن كلما أراد العبور، وكرّر عليه ذلك وهو يرفض، حتّى أنّه صلى الله عليه وآله رغّبه بالجنة وهو يرفض، فعندها أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله الأنصاريَّ بقلع نخلة سمرة ورميها وقال كلمته: "لا ضرر ولا ضرار"(12).
فإنّ حريّة سمرة وحقّه بالمرور وإن كان ثابتاً له إلاَّ أنّه أساء استخدامه فاصطدم بحريّة الرجل الأنصاري في بيته وحقّه في رعاية وحفظ حرمة أهل بيته وعياله، فواجهها النبي صلى الله عليه وآله بحزمٍ لا تهاون فيه كي لا يتجرّأ أحد على أخذ حريّته وحقّه في شيء حجّةً للتعدّي على حريّات الآخرين وحقوقهم.
(*) أستاذ في الحوزة العلميّة.
(1) نهج السعادة
(2) غرر الحكم
(3) عوالي اللآلي
(4) المصدر السابق
(5) عوالم الإمام الحسين عليه السلام
(6) نهج البلاغة، شرح محمد عبده
(7)الخصال
(8) غرر الحكم
(9) عجز بيت من الشعر لأحد الشعراء القرشيين.
(10) الكافي
(11) العِذق: هو في النخلة كالعنقود في الكرمة، والعَذق: النخلة بما تحمله.
(12) المصدر السابق