تحقيق: لنا العزير
عزّز الإسلام فكرة الحجاب التي كانت موجودة قبل بزوغ فجر الرسالة النبوية الشريفة، وتناقلته الأجيال أزياء ومفاهيم احتضنت إلى الشرع مراسم العرف والتقليد. فعلى الرغم من كون الإسلام حارب العرف القاضي بوأد الفتاة، إلا أنه عزّز فكرة الحجاب الموجودة كتقليد ولكن بمفاهيم تتناسب مع مكنون رسالة الدّين الحنيف. هذا الحجاب الذي يرى فيه الكثير من التّابعين زياً يستر البدن، هو بحقيقته فلسفة تحمل عنوان العفة والسّتر النفسي لكُنْهِ المرأة، صوناً لجسدها وروحها معاً.
* البُعد الأخلاقي
وبالانطلاق من هذه المقدّمة يعترضنا تساؤل مهم: إن كان الحجاب زياً يتجسّد هالةً تتنامى حول المرأة، فَلِمَ نجد عينات ليست بقليلة من الملتزمات بالزي الشرعي بمختلف عناوينه يجنحن نحو التمسّك بالعنوان المادي ويتخلّين عن المضمون الروحي للحجاب؟ ولو سقط عند بعض المحجبات البعد الروحي للحجاب، فهل يحق للمجتمع أن ينأى بالحجاب كما لو كان قرين "سوء الخلق" مبدّلاً القاعدة الإيمانية التي تقول ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)، ليضحى "سوء الخلق" ينهى عن الحجاب؟؟؟ من هنا كانت لنا مساءلة لبعض الفتيات الملتزمات بالزّي الشرعي، ليتكلّمن عن رأيهن بظاهرة الانفصام ما بين أخلاقيات الحجاب وشكله عند المحجبات أنفسهن من جهة، وعن تأثير هذا الانفصام على المجتمع من جهة أخرى.
* المحجبة ليست معصومة:
وفي حديثنا مع مريم التي أصرّت على أن تتحدّث عن انتقالها من السفور إلى الالتزام بالحجاب، إعتبرت أن ما كان عليها تكليفاً في السابق وكانت تتهاون به. اليوم، وبعد الحجاب، أضحت تعتبره مسلّماً، وهذا كلّه ببركة الحجاب. إلا أنها تؤكد "المحجبة ليست معصومة، ولكن هي تحمل رسالة الحجاب بمفهومه وفلسفته وما فيه من بُعد، ليس عن المحرمات فقط ولكن أيضاً عن الشبهات غير المتعارف عليها اجتماعياً. فالنرجيلة قد لا تكون حراماً شرعياً لكنها عرفاً غير مقبولة للنساء في الأماكن العامة، فما بالك بالمحجبات؟!".
أما عن أخلاقيات المحجبات، فتضيف: "هذه السلوكيات تنم عن أخلاقيات يحملها الشخص نفسه وليس زيه". بتول توافق مريم في رأيها وتُضيف: "على المحجبة أن تعي كونها تعطي صورة عن دينها تتحرك في المجتمع، فسلوكها إذاً يجب أن يأخذ طابعاً إسلامياً لا شخصياً". أما علياء، فلها رؤيتها "الحجاب هو رمز كمال المرأة وعفتها، ولا يمكن تحصيل هذا الكمال بالشكل فقط، بل بالعمل على الرقي بالسلوك الملتزم بالتوازي مع الحجاب. فلها إذاً الأثر إما الطيب أو السيّئ للدين الذي اعتقدت به تبعاً لأخلاقياتها وسلوكها".
* فتاة تعترف:
تبدأ ريما تصريحها عن تجربتها كفتاة ملتزمة بالحجاب لكنها لا تزال تملك من السلوكيات ما لا يتناسب مع الالتزام المطلق بكنه الحجاب، "نحن في مجتمع فيه من المظاهر والمغريات ما فيه، ومن تدخّل الناس إلى حدٍّ يوقع في الخطأ. هذا المجتمع مجحف بحق الفتاة والحجاب على حد سواء، فلو رأوا فتاة ترتدي عباءة وأخطأت، تُرجم عملها كما لو كانت من أهل العصمة، ويقومون بتعميم تصرفها على جميع الفتيات اللواتي يرتدين العباءة، وهذا أمر غير عادل. فأنا حتى لو كنت أرتدي العباءة إلا أنني لم أعلن أنني إمام، أنا فقط ألتزم إحدى الفرائض الشرعية، كما الصلاة والصوم وغيرهما. أنا أحياناً أضطر إلى أن أستغيب كون البيئة التي أجالسها تقوم بهذا الفعل، ولا أعتقد أن أحداً لا يعرف أن الكذب سيئ والإساءة للناس كذلك... ومع هذا، فأنا لا أنكر مسؤوليتي كمسلمة أولاً، وكملتزمة بالحجاب ثانياً في أن علي فرائض أخرى يجب أن أعمل بها كما هي على كل مسلم ومسلمة. وأنا أؤكد أن الفتاة عندما تقرر الالتزام بالحجاب تصبح أكثر انضباطاً بشروطه كالتزام ديني وما يلازمه من أخلاقيات دينية، من عدم الغيبة أو النميمة أو حتى الكذب، إذ يصبح ذلك بالنسبة لها سلوكاً شائناً حتى في نظرها، وتعمل على التخلّص منه كموروثات اجتماعية كانت تجنح بسلوكها إلى المحرمات، ومن الممكن أن لا يكون ذلك سريعاً، لكنه على الأقل لا يبقي هذا السلوك ملكة تساكن الفتاة، بل هو ضيفٌ منبوذ لم تتمكن من طرده بعد".
لبنى، فتاة ملتزمة ترتدي العباءة، وتفتخر بكونها تمثيلاً لزي السيدة الزهراء عليها السلام، تقول كناظرة إلى هذا المجتمع إنها عندما تشاهد فتاة ملتزمة بالحجاب لكنها غير متّزنة بأخلاقياتها، "أولاً، يجب أن أسأل هذه الفتاة لماذا ارتدت الحجاب، ألتستر شعرها فقط أم لتستر نفسها!؟ ألا تعرف أن زيها يلتصق بها كصفة تلازم أخلاقياتها، فمثلاً يُقال "محجبة تكذب محجبة تستغيب.."؟ أنا لا أستطيع أن أقول إن أخلاقيات أو سلوكيات الفتاة المحجبة هي حجة على المجتمع بشكل كلي، فلو كانت أخلاقياتها سليمة لاهتدى المجتمع، ولو كانت غير ذلك لارتدّ، بل يجب فصل الصفات الشخصية التي يتمتع بها الفرد عن عنوان الحجاب العريض، وإذا كذبت فهي التي تكذب وليس المحجبات، فالكذب كان عندها من قبل الحجاب واستمر معها لأنها لم تتطور بسلوكياتها. وهذا خطأ، أما الحجاب فيجب أن يرقى بها كعنوان طاعة لله والإعراض عن ملذات الدنيا وليس كموضة، فالمحجبة التي لا ترتضي أن ترتدي منديلاً إلا لو كان بأغلى الأثمان ومن الحرير الخالص، لا أعلم إلى أي مدى يمكن أن أحاكمها بمفهوم الحجاب الذي يعمل على حجب النفس بما فيها من روح وجسد. ولكن أيضاً بالنسبة لي، أنظر إلى المحجبات اللواتي لا تتناسبُ أخلاقياتهن مع عنوان الحجاب على أنهن بشر عليهن مسؤولية العنوان الذي يحملنه. ولكن هن لسن قدوة ولسن معصومات، فالحجاب هو فريضة من فرائض الشرع الإسلامي وهو عنوان تنتمي المحجبات إليه وليس العكس. ولكن للأسف ففي مجتمعنا نجد الكثير من اللواتي يبررن عدم التزامهن يرجعن السبب إلى أخلاقيات بعض المحجبات. وبرأيي، هذا ليس سوى تبرير لترك طاعة الله عز وجل". ع
ملية السهم والدليل وغيرهما كلها إشارات قد لا تُضيف للقارئ سوى نظرة إلى الأمور على أرض الواقع، ولكن لو وجّهنا السؤال لأهل الاختصاص سيترك فيهم إن لم يكن عبرة، فعلى الأقل تذكرة، وهنيئاً للمذكّر. من بين فتيات في مجتمع إسلامي تنادى إلى الحجاب الملتزم، المتوارث أو المستجد، حيث أضحى المظهر رسالة والمضمون عبادة، في أحضان الرسالة التربوية الدينية، إلتقينا مشرفة التربية الدينية في ثانوية "البتول"، الحاجة مي الزين. وكان اختيارها بناء على ما تحمله من فكر تربوي ديني وممحّص بالتجربة العملية. والسؤال الجامع الشامل بعد ما ورد:
* لماذا تلتزم الفتيات بالشكل وتتراخى أحياناً عن المضمون، وبمعنى أدق تتناسى أخلاقيات الحجاب؟
قبل الحديث عن أخلاقيات الحجاب، لا بد من أن نقول إن الحجاب كمظهر عام هو هوية إسلامية يجب أن تنم عن فكر واعتقاد لدى الفتاة، ذلك أنه من المعروف أن الجانب الأخلاقي هو جانب الحسن والقبح العقليين، وهو موجود عند كل البشر، سواء كانوا متدينين أو غير متدينين. ونحن اليوم في مجتمع انخفض فيه مستوى التزام الفتاة بالحجاب، فلذلك، نجد أن نسبة محاكمة الفتاة المحجبة على مظهرها، ينطلق من كونها عرفت واختارت هذا التكليف من دينها الإسلامي، وانطلاقاً من كون الإسلام كلاًّ متكاملاً غير متجزّئ، فلا يمكن فصل تكليف الحجاب عن الأخلاقيات الإسلامية عند المحجبة، وهنا يكون حجابها إعلاناً لإقرارها بربوبية الله ووحدانيته. وعلى هذا الأساس، تكون محاكمتها على كلية الدين لا اجتزائه، لأن الممارسات الأخلاقية يجب أن تنشأ عن قناعة ومعرفة، فمن الناس من يمارس الأخلاقيات لاكتساب رضا المجتمع والناس من حوله، ومنهم من يتبعها خوفاً من معصية الله، ومنهم من يقوم بالفعل الأخلاقي على قاعدة التوحيد، كونه عملاً يُشكّل له مسلكاً إلى الذات الإلهية، وهذا هو المفهوم الأعم والأكمل لمعنى ممارسة الأخلاق الإسلامية.
* لو قلنا إن الإسلام كلٌّ لا يتجزأ، هل يمكن أن نعتبر الأخلاقيات الإسلامية واجبة على الفتاة المحجبة، وإلا فيسقط حجابها؟
كون الأخلاقيات الإسلامية واجبة على الملتزمات بالحجاب، فهذا أمر محتّم، لأن إقرارها بدين الرسول محمد صلى الله عليه وآله وإشهارها ذلك بحجابها، يحتّم عليها تطبيق مقولة الرسول صلى الله عليه وآله "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق.."(1). ولكن، الحجاب فريضة، وليس نيشان عصمة، فالفتاة عندما اقتنعت بالحجاب اتخذت خطوة إلى الأمام، إما لتكرّس إيماناً ورثته من أهلها، أو لترفض واقعاً غير ملتزم عاشته، وتقول: ها أنا بدأت مسيرتي نحو الله عز وجل، وعليها أن تعمل على نفسها للتخلّص من كل الشوائب الأخلاقية التي كانت تحملها، وأن تعمل على تجديد الرصانة الذاتية لديها. ولا بد أن ينظر المجتمع إليها على أنها إنسانة عادية أرادت أن تؤدي فريضة وهي الحجاب، ولا يمكننا أن نحمّلها وزر نظرة القدوة التي يرمقها بها المجتمع.
* من المجتمع وحسبما ورد سابقاً، ألا تعتبرين أن الفتاة الملتزمة بالحجاب هي قدوة في هذا المجتمع؟
إن المجتمع ينظر إلى هذه الفتاة كونها قدوة وكونها حسبما أوردنا تبعاً لزيها تُعبّر عن دين أو انتماء معيّن، فتجد البعض لو رأى فتاة محجبة قد يستفتيها بأمور فقهية وعقائدية، كما لو أنها مرجع، وهذا عبء يُثقل كاهل الفتاة المحجبة، وخاصة تبعاً للمستويات الثقافية المتفاوتة التي تركن خلف حجابها. إلا أن هذا لا ينفي الدور الذي تمثّله هذه الفتاة في مجتمعنا خاصة، حيث إنه ليس مجتمعاً الحجاب فيه للجميع ولكل امرئ ما نوى، فالملتزمة بالحجاب عليها أن تعي أنها شاءت أم أبت تمثّل هوية المحجبات، وهذا دور عظيم يمكّنها من حمل رسالة أخلاقية إلى مختلف المعتقدات، فنجد في مجتمعاتنا حالة التعميم متفشية، فلو سمع أحدهم المحجبة الفلانية تكذب، فيتهم المحجبات بالكذب،... وهكذا. كما أن جزءاً من المجتمع عادة يحتاج إلى إيجاد مبررات أحياناً، فيبحث عنها في ثغرات الملتزمات ليلقي بقصوره على كاهلهن. ورد معنا في لقائنا مع إحدى الفتيات أنها قد تلجأ إلى بعض الأخلاقيات غير الحميدة بسبب كونها تتأثر بهذا المجتمع الذي يهوى التفاخر، فقد تكذب لغاية وتستغيب لغاية.. وهكذا، فبرأيك ما الذي يمنع الملتزمات من اتخاذ الحجاب ككل متّحد مع الأخلاقيات؟ عندما تتّخذ الفتاة قرار الالتزام بالحجاب، فهي تكون إنسانة لها أهواؤها ولها خلفيتها الثقافية، ولها بيئة خرجت منها، فهي أيضاً كلّ، وعليها أن تبدأ مسيرتها بالعمل على تثقيف نفسها ليس بالحجاب كشكل بل بالمراد من هذا الحجاب. فعندما تصل الفتاة إلى أن الحجاب هو عنوان من قيمة عظمى وهي العفاف، تجدها تبدأ بتشذيب هذه العناوين الانتقاصية لأخلاقياتها الإسلامية، في مسيرتها نحو العفاف والكمال الذي أراده الله لهذا الإنسان على اختلاف صفاته. كما لا بد من أن نذكر التأثيرات الخارجية على هذه الفتاة، من تحوّلات ثقافية باتت تصنعها المسلسلات الأجنبية عن لغتنا وثقافتنا وديننا، لينحدر معها مفهوم العفاف كقيمة إنسانية تتغلب عليها مفاهيم الغريزة والخيانة... وغيرها، مما يترك في فتياتنا سلوكيات وأخلاقيات هجينة عن ذاتهن الملتزمة بدين متمّم الأخلاق صلى الله عليه وآله.
ماذا تقولين للملتزمات بالحجاب اليوم؟
إن الالتزام بالحجاب لم يعد مستغرباً مثل الأيام الغابرة، فالحجاب اليوم بات مفخرة ورسالة تحملها الفتاة المحجبة في مجتمعها، فلو كانت صورتها الأخلاقية جيدة تكون قد حملت رسالة مؤثرة إيجاباً وإلا فالعكس، وأقول للملتزمات، إنه ولو أثقلهن المجتمع بالمحاكمة، إلا أنه عادة التلميذ المجتهد، يكون اللوم عليه لو أخطأ أشدّ من لوم غيره تبعاً لمدى الثقة والاحترام الذي يحمله المجتمع لهذا الزي ومكنونه، وعلى الملتزمات أن يعين مسؤولياتهن في مجتمعهن، ليس كون المجتمع محقاً في لجوئه إلى التقديس أو الرجم، وإنما من كون الحجاب بحد ذاته قيمة تنتمي إلى فلسفة توحيد الدين ككل لا يتجزّأ، كما أعتبر أن المجتمع غالباً ما يلجأ إلى صناعة الأعذار، فلترفع الملتزمة هذه الأعذار ولو على الأقل عن كاهلها.
(1)كتاب القضاء، السيد الكلبايكاني، ج1، ص7.