الشيخ يوسف سرور
ذات زمن، كانت عقارب البوصلة تُشير إلى اتِّجاه الشَّرق، وعقارب بوصلةٍ أخرى كانت تقود باتِّجاه الغرب... كانت الحروب تدور رحاها على كلِّ الصُّعُد، في كلِّ الميادين، بين كلِّ الجماعات.. أحزاباً، منظَّمات: محليَّة، إقليميَّة ودوليَّة، دولاً، أحلافاً ومنظومات.. كان العالم ينفلق إلى سماطَيْن، في انقسامٍ بيِّن تحدو الآمال فيه إلى انتصارٍ تتحقّقُ معه المشاريع والطموحات.. تتجسَّدُ فيه الرؤى والقناعات.
كان كلٌّ يبحثُ عن مكانٍ له في أحد هذين السماطَيْن.. يُفتِّش عن ملاذٍ يشعرُ فيه بالأمان.. عن ركنٍ له.. قطبٍ يدور في فلكه، تحميه الجاذبيَّة من الانفلات والسِّباحة في فضاءٍ يشعر فيه بالضَّياع.. بالخوف.. بدنوِّ ساعة الأجل وتلاشي الحاضر وصورة المستقبل الموعود. كانت حمى الصِّراع "المسمَّى بارداً" قد بلغت الذُّروة، وكانت أدواته في انفعالٍ مجنونٍ لا يعرفُ الهدوء. الأدمغة والأطر والسَّاحات والميادين، الأجهزة واللِّجان والحركات والأحزاب والأنظمة، كلُّها كانت منخرطةً في هذا الصِّراع. اقتصاديّاً، كانت الأسواق والبنوك، العملات والمبادلات، أنظمة الحكم والدَّورة الاقتصاديَّة العامَّة.. كانت تنسبُ نفسها إلى أحد هذين العملاقَيْن.
وكلُّ من كان يبحثُ عن موطئ قدمٍ له في هذه السَّاحات كان ينخرطُ في مجالٍ يصنِّفه تحت عنوانٍ من اثنين. عسكريّاً، كانت الأحلاف تنعقد، وأشكالُ التسليح وأنواع التَّدريب، التَّكتيكات القتاليَّة، الانتشار الميداني، المشهد الإستراتيجي في التَّموضع ونوعيَّة الأسلحة وطبيعة التَّشكيلات القتاليَّة وأحجامها، تحديد العدوِّ من الصَّديق.. كلُّ ذلك كان يندرج في ضمن هذا الفرز الحاد، الَّذي لم يكن يعترف بمكانٍ وسط. كذلك، كان العالم أمنيّاً، سياسيّاً.. وثقافيّاً، كانت منابعُ المعرفة ومصادرها شبه مقصورة على هذين المعسكريَن؛ حيثُ شكَّلت النَّظريَّات الفلسفيَّة والرُّؤى المعرفيَّة ونظريَّات المعرفة أساس الحراك الثَّقافي، والسِّجال الكلامي المبسوط على كلِّ المنابر والمحافل. نعم، كانت ساحاتنا ميادين لتلك الطُّروحات، وأجيالُنا وشبابُنا أسرى لتلك الأفكار التي استبدَّت بالعقول، واحتلَّت مجتمعاتنا، حتَّى أثَّرت بالأعراف والتَّقاليد والعادات.. امتدَّت حتَّى طالت منظومة الاعتقادات والقيم..
تشكّل مشهدُ عرمرميٌّ في العالم -ومن ضمنه عالمنا العربي والإسلامي-، وبات الخارج عنه خارجاً على المألوف، على السَّائد؛ وانحسر الدِّين إلى ساحاتٍ باتت هامشيَّة التَّأثير في النَّسيج الاجتماعي العامّ، وانحصرت فاعليَّاته في المساجد وبعض الأُطر الضَّيِّقة والمحاصِرة والمتَّهمة.. جاء من أقصى المدينة رجلُ يسعى.. نادى بالإسلام شعاراً، وبالله ربَّاً.. نفض غُبار السِّنين، وأزال شوائب القرون، وأزاح السَّتائر والحجب المُستحكمة بالقلوب الَّتي أوهنها وهم الأمان المزعوم.. إذ كانت الحيرة مستوليةً على العقول.. والقلوب يسكنها وجيبٌ مضطربٌ على الحاضر والآتي من الأيَّام.. بوصلةٌ تحرَّك عقربها باتِّجاه الأعلى.. لا شرقيَّة تُحكِم ستاراً حديدياً على الأفكار والقلوب والأمن والمال والملكيَّة.. ولا غربيَّة تُسلِسُ القياد للمال، وتتغلغلُ في كلِّ المنظومات لتهدم كلَّ أسوار المناعة وتُبدِّد كلَّ عوامل الأمان. ال - هذا القادمُ – بالإسلام المحرِّر من كلِّ قيود التَّبعيَّة للشَّرق، ومن كلِّ أغلال العبوديَّة للمال وللسُّلطة المنادي بها الغرب..
وقف جبلاً ثابتاً، حطَّم على أقدامه كلَّ الأمواج العاتية.. مدّاً هادراً يسحق كلَّ أشواك الشَّرق والغرب، مبدِّداً الأوهام السَّاكنة في القلوب المُرتجفة، واضعاً الدَّليل السَّاطع والبرهان القاطع، أنَّ الإسلام الّذَي زويتموه في المساجد والَّذي عزلتموه في القلوب المتردِّدة، والَّذي كدتم تقتلونه في النُّفوس الحائرة هذا الإسلام المحمدّي الأصيل - آتٍ ليُزيل كلَّ سرابٍ، ويمحق باطلكم ويؤكِّد أنَّ القادم من زمان هو زمان انتصار الحق، ويوم امتلاء الأرض قسطاً وعدلاً، بعدما ملأتموها ظلماً وجوراً.