* جهل الشكاك بأسباب الخلقة ومعانيها
إنَّ الشكاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمل الصواب، والحكمة فيما ذرأ الباري جلّ قدسه، وبرأ من صنوف خلقه في البر، والبحر، والسهل، والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود، حتى أنكروا خلق الأشياء، وادعوا أن تكوّنها بالإهمال، لا صنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبّر، ولا صانع، تعالى الله عمَّا يصفون، وقاتلهم الله أنّى يؤفكون. فهم في ضلالهم وغيهم وتجبّرهم بمنزلة عميان دخلوا داراً قد بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفُرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأُعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها، ووضع كل شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير، وحكمة من التدبير، فجعلوا يتردّدون فيها يميناً وشمالاً، ويطوفون بيوتها إدباراً وإقبالاً، محجوبة أبصارهم عنها، لا يبصرون بنية الدار، وما أعدّ فيها وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه، وأُعدّ للحاجة إليه، وهو جاهل للمعنى فيه ولما أعد ولماذا جعل كذلك؟ فتذمّر وتسخط وذم الدار وبانيها.
فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة. فإنهم لما غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم حيارى، فلا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته، وحسن صنعته وصواب هيئته. وربما وقف بعضهم على الشيء يجهل سببه، والأرب فيه، فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ، كالذي أقدمت عليه المناية الكفرة، وجاهرت به الملحدة المارقة الفجرة، وأشباههم من أهل الضلال المعللي أنفسهم بالحال. فيحق على من أنعم الله عليه بمعرفته، وهداه لدينه، ووفّقه لتأمل التدبير في صنعة الخلائق، والوقوف على ما خلقوا له من لطيف التدبير وصواب التقدير، بالدلالة القائمة الدالة على صانعها، أن يكثر حمد الله مولاه على ذلك، ورغب إليه في الثبات عليه والزيادة منه فإنه جلّ اسمه يقول: ﴿لئن شَكرتُم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديد﴾.
* الإنسان ذكر وأنثى
من جعل الإنسان ذكراً وأنثى إلاَّ من خلقه متناسلاً؟ ومن خلقه متناسلاً إلاَّ من خلقه مؤملاً؟ ومن أعطاه آلات العمل إلا من خلقه عاملاً؟ ومن خلقه عاملاً إلا من جعله محتاجاً؟ ومن جعله محتاجاً؟ ومن جعله محتاجاً إلا من ضربه بالحاجة؟. ومن ضربه بالحاجة إلا من توكل بتقويمه؟ ومن خصّه بالفهم إلا من أوجب الجزاء؟ ومن وهب له الحيلة إلا من ملكه الحول؟ ومن ملكه الحول إلا من ألزمه الحجة؟ ومن يكفيه ما لا تبلغه حيلته إلا من لم يبلغ مدى شكره.
فكّر وتدبّر ما وصفته. هل تجد الإهمال يأتي على مثل هذا النظام والترتيب؟ تبارك الله تعالى عما يصفون.
* الفؤاد وثقبه المتّصل بالرئة
أصف لك الآن يا مفضّل الفؤاد... اعلم أنَّ فيه ثُقباً موجّهة نحو الثقب التي في الرئة تروح عن الفؤاد. حتى لو اختلفت تلك الثقب وتزايل بعضها عن بعض، لما وصل الروح إلى الفؤاد، ولهلك الإنسان، أفيستجيز ذو فكرة وروية أن يزعم أنَّ مثل هذا يكون بالإهمال، ولا يجد شاهداً من نفسه يزعّه عن هذا القول؟ لو رأيت فرداً من مصراعين فيه كلوب أكنت تتوهّم أنه جعل كذلك بلا معنى؟ بل كنت تعلم ضرورة أنه مصنوع يلقى فرداً آخر، فيبرزه ليكون في اجتماعهما ضرب من المصلحة. وهكذا تجد الذكر من الحيوان، كأنه فرد من زوج مهيأ من فرد أنثى، فيلتقيان لما فيه من دوام النسل وبقائه، فتباً وخيبةً وتعساً لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها؟