الإمام الصادق عليه السلام والمفضل
* تهيئة العالم وتأليف أجزائه
يا مفضل أول العبر والدلالة على الباري جل قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنك، إذا تأملت العالم بفكرك وخبرته بعقلك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدورة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيه لشأنه معد، والإنسان كالمالك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه. ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة، وإن الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظمه بعضاً إلى بعض، جلّ قدسه وتعالى جده وكرم وجهه ولا إله غيره تعالى عما يقول الجاحدون، وجلّ وعظم عما ينتحله الملحدون.
* منفعة الأطفال في البكاء
أعرف يا مفضل ما للأطفال في البكاء من المنفعة واعلم أن أدمغة الأطفال رطوبة، إن بقيت فيها أحدثت عليهم أحداثاً جليلة وعللاً عظيمةً من ذهاب البصر وغيره، والبكاء يسيل تلك الرطوبة من رؤوسهم فيعقبهم ذلك الصحة في أبدانهم والسلامة في أبصارهم. أفليس قد جاء أن يكون الطفل ينتفع بالبكاء ووالده لا يعرفان ذلك دائبان ليسكتانه ويتوخيان في الأمور مرضاته لئلا يبكي، وهما لا يعلمان أن البكاء أصلح له وأجمل عاقبة. فهكذا يجوز أن يكون في كثير من الأشياء منافع لا يعرفها القائلون بالإهمال ولو عرفوا ذلك لم يقضوا على الشيء أنه لا منفعة فيه، من أجل أنهم لا يعرفونه ولا يعلمون السبب فيه، فإن كل ما لا يعرفه المنكرون يعلمه العارفون وكثير ممّا يقصر عنه المخلوقون محيط به علم الخالق جل قدسه وعلت كلمته.
فأما ما يسيل من أفواه الأطفال من الريق، ففي ذلك خروج الرطوبة التي لو بقيت في أبدانهم لأحدثت عليهم الأمور العظمية. كمن تراه قد غلبت عليه الرطوبة، فأخرجته إلى حد البله والجنون والتخليط إلى غير ذلك من الأمراض المتلفة كالفالج واللقوة وما أشبههما، فجعل الله تلك الرطوبة تسيل من أفواههم في صغرهم، لما لهم في ذلك من الصحة في كبرهم، فتفضّل على خلقه بما جهلوه ونظر لهم بما لم يعرفوه، ولو عرفوا عليهم لشغلهم ذلك من التمادي في معصيته، فسبحانه ما أجلّ نعمته وأسبغها على المستحقين وغيرهم من خلقه، تعالى عما يقول المبطلون علواً كبيراً.
* ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهمأنه الحق﴾
- عن سودة بن عمارة الهمدانية: قصدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في رجل قد كان ولي صدقاتنا، فجار علينا. فصادفته قائماً يصلّي، فلمّا رآني انفتل من صلاته، ثم أقبل علي بوجهه برفق ورأفة وتعطّف وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته، فبكى، ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج قطعة من جلد فكتب فيها: "﴿بسم الله الرحمن الرحيم قد جاءتكم بيّنة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين﴾ فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتى يقدم من يقبضه منك والسلام" ثم دفع إلي، فوالله ما ختمها بطين ولا حزمها، فجئت بالرقعة إلى صاحبها، فانصرف عنّا معزولاَّ.