نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تربية: تحديد الاختصاص العلمي بين القابلية والحاجة


د. حسن سلهب


بعد تحصيل الشهادة المتوسطة والثانوية، يقف الطلاب، ومعهم أهلهم، أمام تحدٍ صعب: ماذا وكيف يختارون اختصاصهم العلمي للسنوات العلمية أو المهنية المقبلة؟ وإذا كان أكثر هؤلاء يكتفون ببعض المعطيات الرائجة والشائعة، وبالتالي يحدِّدون مستقبلهم العلمي تأثراً بها، إلاَّ أنَّ هناك اتجاهين رئيسين يمكن اعتبارهما والتوقف عندهما في هذا المجال:

أ‌- الاتجاه الأول: حاجات السوق وهو الاتجاه الغالب على مستوى السياسات العلمية الوطنية، حيث يتم تحديد نوع الاختصاص العلمي للطلاب على أساس حاجات السوق، فإذا كانت الدولة تعاني من نقص في بعض مجالات الطب أو الهندسة أو المعلوماتية، فإنها تبادر إلى منح فرص عديدة، وتشجع الطلاب على الدخول في الاختصاصات التي تفتقر الى الأعداد في المجالات المذكورة، هذا من ناحية الدولة. أما من ناحية الطلاب، فهم يتأثرون بمبادرة الدولة بلا شك، ولكن يضيفون إلى ذلك بعض المعايير التي تتصل بما يسمى ماديات أو معنويات الاختصاص، فالمداخيل التي يمكن أن يجنيها هؤلاء من اختصاصهم، والسمعة الاجتماعية التي سيمتلكونها جراء هذا الاختصاص المستقبلي، كل ذلك سيشكل عناصر حاسمة في إقرار الاختصاص، ولكن من دون أن يعني ذلك الخروج عن المعيار الأساس الذي يشكل الإطار العام في هذا الاتجاه، أي حاجات السوق.

ب‌- الاتجاه الثاني: القابليات والاهتمامات وهو الاتجاه الأضعف، حيث يتم تحديد نوع الاختصاص العلمي للطلاب على أساس قابليات واهتمامات الطلاب الفعلية. فحاجات السوق هنا لا تشكل إطاراً عاماً، بل تأتي في الدرجة الثانية، أي أن الطلاب لا ينظرون إلى كل الحاجات الملحوظة للمجتمع، بل يقتصرون في ذلك على ما يتصل بقابلياتهم واهتماماتهم. إن هذا الاتجاه ينطوي على فكرة رئيسة مفادها أن نجاح الطالب في اختصاصه العلمي يرتبط بمستوى تفاعله مع مكوِّنات وحيثيات هذا الاختصاص، فإذا كانت قابلياته واهتماماته تتصل بالعلوم الإنسانية، دون غيرها، فالتفاعل هنا مشروط بتعلم مواد ذات مكونات وحيثيات خاصة بهذه العلوم تحديداً، والأمر نفسه إذا كانت قابلياته واهتماماته تتصل بالعلوم المادية والتطبيقية وغير ذلك. وعندما نقول بالقابليات والاهتمامات، لا نقصد من ذلك انعدام القابلية والاهتمام في بعض العلوم عند أي طالب، أو توافر ذلك بشكل كامل عند آخر، فهذا أمر غير واقعي، بل وجود ما يمكن تسميته بالميل لبعض العلوم، مقارنة ببعضها الآخر. فلا يخلو عالم بالذرة من اهتمامات إنسانية، ولكن هذه الاهتمامات لا تشكل ميلاً مهيمناً على اتجاهه العقلي أو الذهني، كما لا يخلو عالم بالتربية الإنسانية من اهتمامات مادية، ولكن العبرة في الميل الملحوظ، الصادر عن نوع الذكاء الذي يحمله الطالب.

ج- بين القابلية والحاجة
إن تحديد الميل عند الطالب قد يكون أصعب من تحديد المستقبل العلمي له، لا سيما في الحالات التي لا يُظهر فيها نبوغاً معيناً في مجال من المجالات العلمية، أو عندما يظهر هذا النبوغ بشكل متشابه وفي مجالات متعدِّدة، لا تقف عند حدود العلوم الإنسانية أو العلوم المادية، فضلاً عن الدوائر التابعة لهذين المجالين الكبيرين، ما يتطلب ليس الاكتفاء بظواهر السيرة العلمية للطالب بل إنجاز اختبار تشخيصي، مُعَدٍّ بشكل علمي، لتحديد الميول والقابليات العلمية والعقلية له. فإذا ما ثبت أن ميله يكمن في المجال الحسي الحركي، فلا مناص من اختيار المستقبل العلمي الذي يتجانس مع هذا المجال، كالميكانيك والرياضة، وسائر الاختصاصات التي تعتمد على الأعضاء الحسية الحركية عند الإنسان. والأمر نفسه فيما إذا لاحظنا ميلاً لغوياً له، فالضرورة تقتضي، في مثل هذه الحال، اختيار المستقبل الذي يتصل بالمجالات اللغوية، كالآداب والترجمة، وعلم المعاجم وغير ذلك. وهناك بعض الميول النادرة أو المحدودة، لا سيما المتعلقة بمجال التربية الحيوانية، أو المواد الأثرية، فلا يُعقل استبعادها فقط تحت عنوان ندرة الحاجة، أو محدودية الطلب.

* النجاح كفيل بتقديم تجارب مميزة:
إن النجاح في العمل، أو القدرة على الإنجاز فيه، شر ط لا يتقدم عليه شرط آخر في اختيار الاختصاص العلمي. ومن غير الحكمة توجيه الطلاب نحو خيارات علمية غير متصلة بميولهم، لأنهم سيقعون حتماً في حالة التردُّد،التي قد تجعلهم يغيَّرون اتجاههم المهني في وقت متأخر، مع كل الخسارة للجهود والأوقات والأموال التي بذلوها، أو في أحسن الأحوال سيكملون حياتهم المهنية مع كثير من المضض والحسرة وعدم الاستقرار النفسي. وأمامنا في المجتمع حالات عديدة اختارت مهناً مرموقة ومجزية، لكن أصحابها يفكرون على الدوام بتغييرها، بل يمارسون أعمالاً أخرى أقل قيمة في المجتمع، وأدنى تحصيلاً للمال، لكنهم منسجمون معها، ومنتجون فيها. إن معظم الميول العقلية عند الطلاب لها خياراتها العلمية، ولا يوجد خيار علمي مناسب للطالب، وفي الوقت نفسه، غير مفيد للمجتمع. وحتى في خيارات الازدحام على الخيارات المناسبة، يمكن اكتشاف مناطق جديدة في هذا العلم، كما يمكن تقديم تجارب مميزة فيه. فالميل الواضح عند التلميذ في مثل هذه الحال كفيل بتوفير قيمة جديدة، باعتبار منطق التراكم وإضافة الجهد النوعي. إن اختيار مهنة المستقبل ليس طريقة في تحديد مستوى الدخل فحسب، إنه بالدرجة الأولى طريقة في اختيار طبيعة المساحة الأوسع للحياة، ولن يعوِّض الدخل المرتفع، على فرض الحصول عليه، تلك المشاعر الصعبة الناجمة عن حالة الضجر والرتابة الخانقة، جراء التعارض بين ميول العامل وطبيعة العمل. وإذا كان التعارض، أو عدم التجانس، بين الزملاء في العمل يدفع بعضهم لترك العمل، وتحمُّل كل الأعباء المترتبة على ذلك، فما بالك بالتعارض بين ميل العامل وطبيعة العمل؟!

إن حاجة المجتمع الحقيقية لا تكمن في توفير النقص بأي طريقة، ومنطق السوق لا يستقيم في مجالات محصورة إذا ما ظهرت فوائد اجتماعية معتبرة في مجالات أخرى. أما قيمة الأعمال فتفرضها النجاحات المدهشة، والإنجازات المتألقة، والفوائد غير المتوقعة التي تقدِّمها للمجتمع، وليست الأوهام التي تتحكم بالجميع بلا دليل ولا منطق. وأخيراً، إن التنوُّع في الخلق إرادة إلهية لتحقيق التكامل في الاجتماع الإنساني، وهذه حكمة يجب التجاوب معها إلى أقصى الحدود. ستبقى حاجة السوق معتبرة، ولكن بعد تشخيص القابلية، وبناء على نتائج التشخيص، وليس قبل ذلك بتاتاً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع