إنّ الغنى من الأوصاف الكمالية للنفس، فالثروة والأموال لا توجب الغنى في النفس، بل نستطيع أن نقول: مَنْ لا يملك غنى في النفس، يكون حرصه تجاه المال والثراء أكثر، وحاجته أشد. ولمّا لم يكن أحد غنياً حقيقةً أمام ساحة الحق، جلّ جلاله المقدسة، الغني بالذات، وكانت الموجودات كلها فقيرة ومحتاجة، لهذا، كلّما كان تعلّق القلب إلى غير الحقّ، وتوجّه الباطن نحو تعمير المُلك والدّنيا أشدّ، كان الفقر والحاجة أكثر. أما الحاجة القلبية، والفقر الروحي، فواضح جداً، لأن نفس التعلّق والتوجّه فقر. وأما الحاجة الخارجية التي تؤكد بدورها الفقر القلبي، فهي أيضاً أكثر؛ لأنّ أحداً لا يستطيع النهوض بأعماله بنفسه، فيحتاج في ذلك إلى غيره. والأثرياء، وإن ظهروا في مظهر الغنى، ولكنّهم بالتّمعن، يتبيّن أنّ حاجتهم تتضاعف على قدر تزايد ثرواتهم، فالأثرياء فقراء في مظهر الأغنياء، ومحتاجون في زيّ من لا يحتاج.
* نحن الفقراء إلى الله
وكلّما اتجه القلب نحو تدبير الأمور، وتعمير الدنيا أكثر، وكان تعلّقه أشد، كان غبار الذلّ والمسكنة عليه أوفر، وعلى العكس، كلّما رَكَلَ بقدميه التعلّق بالدنيا، وحوّل بوجه قلبه إلى الغنيّ المطلق، وآمن بالفقر الذاتي للموجودات، وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك لنفسه شيئاً، وأن جميع الأقوياء والأعزّاء، والسلاطين، قد سمعوا بقلوبهم أمام ساحة الحق المقدسة من الهاتف الملكوتي، واللسان الغيبي، الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾ (فاطر:15) كلّما استغنى الإنسان عن العالمين أكثر، وبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى لمُلك سليمان عليه السلام قيمة، ولا يأبه بخزائن الأرض، عندما توضع بين يديه مفاتيحها. كما ورد الحديث، أن جبرائيل قد هبط من قبل الله تعالى بمفاتيح خزائن الأرض لخاتم النبيين صلى الله عليه وآله، فتواضع صلوات الله وسلامه عليه ورفض قبولها، وافتخر بفقره (1).
* "إلّا أن أقيم حقاً"
ويقول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام لابن عباس بعد دخوله عليه: "والله لهي (النعل) أحبّ إليّ من إمرتكم" ففي نهج البلاغة قال عبد الله بن عباس: "دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال عليه السلام: "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقّاً، أو أدفعَ باطلاً" (2). ويقول الإمام علي بن الحسين عليه السلام: "أَسْتَنْكِفُ أَنْ أَطْلُبَ الدُّنْيا مِنْ خَالِقِهَا فَكَيْفَ بطَلَبِها مِنْ مَخْلوقٍ مِثْلِي" (3).
* "النار خيرٌ من العار"
ورد في كتاب (سلسلة الرعية الكبرى) لنجم الدين(4)، بعد الأيمان المغلّظة: "لو خيّروني بين ثروة الدّنيا وجاهها مع الجنّة وحورها وقصورها، وأرادوا مني مجالسة الأغنياء من جهة، وبين البؤس في الدنيا والشقاء في الآخرة، وأرادوا مني مجالسة الفقراء من جهة أخرى، لاخترت الفقراء، وابتعدت عن عار مجالسة الأغنياء، والنار خير من العار" (5). نعم إنّ أهل الحق يعرفون أي نوع من الكدورة والظلام في القلب يسبب التوجه نحو خزائن الدنيا، والمال، والجاه، والمجالسة مع أهلها؟ وكيف يبعث على الوهن والفتور في العزيمة، ويوجب الفقر والحاجة لدى القلب، ويصرفه عن الانتباه إلى النقطة المركزية الكاملة بصورة مطلقة؟ ولكن عندما أَعطيتَ، أيها العزيز، القلب إلى أهله والبيت إلى صاحبه، وأعرضتَ عن غيره، ولم تدفع البيت إلى الغاصب، تجلَّى فيه صاحبه. ومن المعلوم أن تجلّي الغَنيّ المطلق، يدفع إلى الغِنى المطلق، ويغرق في بحر العزّة والغِنى، فيمتلئ من الغنى، وعدم الاحتياج ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8) وينهض صاحب البيت بإدارة أموره، ولم يترك الإنسان إلى نفسه، وإنّما يتدخل، ويتصرف في جميع شؤون عبده، بل يصبح هو سمعه، وبصره، ويده، ورجله، وتتحقق بذلك ثمرة التقرّب بالنوافل، كما ورد في الحديث الشريف عن الكافي، بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: "وَإنَّهُ ليَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّافِلةِ حَتّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتي يَبْطِشُ بِهَا" (6) فيوصد باب فقر العبد وفاقته نهائياً، ويستغني عن العالمين.
* المؤثّر في الوجود
ومن المؤكّد أنه يرتفع من وراء هذا التجلي الخوفُ من جميع الكائنات، ويحلُّ الخوف من الحق المتعالي محلّه، وتملأ القلب عظمة الحق وهيبته، ولا يرى لغير الحق عظمةً، واحتشاماً، وتصرّفاً، ويدرك حقيقة أن (لا مُؤثّر في الوُجود إلّا الله) بكل قلبه. وقد أشير في هذا الحديث الشريف إلى بعض هذه المطالب التي ذكرناها، (تفرَّغ لعبادتي أملأُ قلبك غِنى ...) وهذا التفرغ القلبي لأجل العبادة، يسمو بالإنسان رويداً رويداً إلى أعلى مراتب حضور القلب للعبادة. وهذه نبذة عن الآثار التي تترتب على العبادة. أما لو غفل القلب عن الاشتغال بالحق، وأهمل التفرغ في التوجه نحوه، لغدت هذه الغفلة أساس كل الشقاء، وينبوع جميع النقائص، ومبعث كافة الأمراض النفسية، وبسبب هذه الغفلة يحول بين القلب والحق المتعالي ظلامٌ داكن، وكدورة شديدة، وحجب غليظة تمنع من تغلغل نور الهداية فيه، وتحرمه من التوفيقات الإلهية، وينعطف القلب مرة واحدة إلى الدنيا وملذاتها، من تعمير البطن والفرج. ويغشاه حجاب الأنانية والإنية، وتطغى النفس، ويكون تحرك صاحب هذه النفسية من خلال الترفع والأنانية، ويبدو ذلّه الذاتي، وفقره الحقيقي، ويبتعد في كل حركاته وسكناته عن ساحة الحق المتعالي، ويكون نصيبه الخذلان. كما تولى الحديث الشريف بيانه: "وَإِنْ لَا تَفرَغْ لِعِبَادَتي أَمْلأُ قَلْبَكَ شُغْلاً بِالدُّنْيَا ثُمَّ لَا أَسُدُّ فَاقَتَك وَأَكِلُكَ إِلى طَلَبِكَ".
* تنبيه
لا بد من معرفة أن المقصود من إيكال الأمر إلى العبد، أنّ العبد حيث ينصرف عن الحق، ويتوجه إلى الدنيا، وتتحكم فيه الطبيعة، وتتغلب عليه الأنانية، ويبرز فيه العجب والذاتية؛ يُعبر عن ذلك بإيكال الأمر إلى العبد. وأما الإنسان الذي يولي وجهه نحو الحق، ويغمر جوانب قلبه نور الحق، فلا محالة تكون تصرفاته حقاً.
1.قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "...وهبط مع جبرئيل ملك لم يطأ الأرض قطّ، معه مفاتيح خزائن الأرض، فقال يا محمّد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول هذه مفاتيح خزائن الأرض، فإن شئت فكن نبياً عبداً، وإن شئت فكن نبياً ملكاً فأشار إليه جبرئيل عليه السلام أن تواضع يا محمد فقال: بل أكون عبداً، ثم صعد إلى السماء". أمالي الصدوق، مجلس 69، ح 2.
2.نهج البلاغة، ج1، ص80، الخطبة 33.
3.علل الشرائع، الصدوق، ج 1، الباب 165، ح 3.
4.أحمد بن عمران بن محمد (540 618هـ. ق) الصوفي الخوارزمي المعروف بـ(نجم الدين) من العرفاء المشهورين وكبار مشايخ الصوفية له: منازل السائرين، منهاج السالكين.
5.منهاج السالكين، المنهج السادس، ص 157.
6.أصول الكافي، الكليني، ج2، ص 352.