تحقيق: فاطمة خشاب درويش
ليس الوشم ظاهرة جديدة في مجتمعاتنا، بل إنها ظاهرة موجودة منذ القدم، لكنها عادت تتنامى، بشكل ملحوظ في أيامنا، من باب الموضة والحداثة؛ مما ساق العديد من التساؤلات في هذا المجال. فما هي الأسباب التي جعلت من "التاتو" ظاهرة اجتماعية واسعة الانتشار؟ في هذا التحقيق نتوقف عند الأسباب والتأثيرات، لا سيما وأنّ للوشم الكثير من المخاطر الصحيّة والاجتماعيّة وحتى النفسيّة إلى جانب المحاذير الشرعيّة.
* ما هو الوشم؟
ينطلق د. نبيل عطوي الاختصاصي في الأمراض الجلدية والزهرية في حديثه من التأكيد على توسع ظاهرة الوشم في مجتمعنا نتيجة إقبال الناس المتزايد عليه. فالوشم هو عملية حقن صبغات في الطبقات العميقة من الجلد تحت البشرة وذلك من خلال وخز متكرر لإبرة أنبوبية تحتوي في داخلها مادة الحبر الملون فتدخل قطراتها عميقاً في طبقات الجلد السفلى (الأدمة) فيتغير لون الجلد بعد التئام الجرح ويتشكل في النهاية الرسم المطلوب. ويلفت د. عطوي إلى وجود نوعين من المواد المستخدمة في الوشم المادة الأولى معدنية يستمر مفعولها لسنوات والمادة الثانية نباتية المنشأ يستمر مفعولها لأشهر معتبراً أن المشكلة تكمن عادة في نوعية الحبر الذي يستخدم في الوشم والذي يكون نباتي المنشأ وتنجم عنه آثار جانبية خاصة عند استخدام إبر ملوثة.
* بين الأمس واليوم
ارتبط الوشم قديماً بثقافات الشعوب، وهو يدخل في مجال علم الأنتربولوجيا وكذلك في علم عادات وتقاليد الشعوب (الأثنولوجيا) حيث كانت القبائل البدائية منذ القدم تعبّر عن شعارها وعن انتماء أفرادها فيتميز كل فرد بوشمه الذي يعبّر أيضاً عن مدى تعلقه بقبيلته وكان يرسم بـ "الحناء".
يتحدث د. محمود غنوي الاختصاصي في مجال علم النفس العيادي كيف كانت النساء في القدم يعتمدن الوشم للتزيّن ولتغطية بعض العيوب الخلقية والجسدية. أما الرجال فقد كانوا يلجؤون للوشم للتعبير عن مظاهر القوة فكان الوشم يرسم على العضلات والأكتاف وغالباً ما كان عبارة عن صور حيوانات شرسة وقويّة.
مع تطوّر المجتمعات وتعدّد الديانات انسابت هذه التّقاليد إلى الطقوس الدينية للقبيلة أو الجماعة وصار الوشم في هذه المرحلة يظهر بشكل واضح على الوجه واليدين ويدلّل على الانتماء الديني. وغالباً ما كان يعمد من لا يؤمن بالدين إلى وشم نفسه بهيكل أو جمجمة أو صور وحوش أو ما يعتقد أنه الشيطان. وبعد الحرب العالمية الثانية باتت الرموز التي تستخدم في عملية الوشم مرتبطة بشعارات الأحزاب. وفي فترة ما بعد التسعينيات وظهور القطبية الأحادية بات الوشم يعبر أكثر عن ثقافة الناس ومعتقداتهم وتعددت أماكن الوشم لتطال الأماكن غير الظاهرة من الجسد.
* بين مؤيد ومعارض
يرفض الشاب عبد الرضا (23 عاماً) فكرة الوشم بالمطلق ويرى فيها تعبيراً عن الفراغ لدى الشباب الذي يندفع لذلك وما يلبث أن يندم مع تقدمه في العمر، مشيراً إلى أن من يقدم على الوشم يسعى أيضاً للفت الأنظار تعبيراً عن رغبته في الظهور. ويرى عبد الرضا أن هذا السلوك يتعارض إلى حد ما مع سلوكيات الإسلام.
وفي مقابل هذا الرأي يعتبر محمود (25 عاماً) أن الوشم حالة خاصة يختارها الإنسان بإرادته وليست لها أي أبعاد. فإذا اختار أحد أن يشِمَ يده باسم خطيبته فهذا تعبير منه عن حالة الحب "الأبدية" التي يعيشها على حد تعبيره وهي لا تؤثر على التزامه وسلوكياته. وعندما سألناه عن إمكانية الندم على وشْم جسده مع مرور الوقت، اكتفى بالقول: "لا أحد يعرف ماذا تخبئ الأيام".
* ماذا تقول الأديان؟
غالبية الأديان لا تشجع على الوشم، ففقهاء أهل السّنة يعتبرون الوشم أمراً ملعوناً، أما فقهاء الشيعة فيعتبرونه أمراً مكروهاً. وكذلك الأديان الأخرى كالمسيحية أو اليهودية. فهذه الظاهرة لها ضرر جسدي يسببه الإنسان لنفسه.
مدير مكتب الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي في لبنان سماحة الشيخ محمد توفيق المقداد وفي معرض شرحه لرأي الشرع الإسلامي يقول: "الوشم من حيث الرأي الفقهي والشرعي ليس محرماً شرعاً لكن الإسلام لا يشجع عليه لأنّه يمسّ بجوهر الشّخصيّة الإسلاميّة المتّزنة. فمنظر الوشم أو الأوشام يوحي بالاشمئزاز. وغالباً من يضع الوشم على جسده يصيبه فيما بعد نوع من الندم والرغبة في نزعه والتخلص منه. أضف إلى أن غالبية من يضعون الوشم هم من الأشخاص غير الملتزمين دينياً أو أن التزامهم سطحي غير مبالٍ بنظرة المجتمع له. ويتابع سماحته قائلاً: "لا يجوز من الناحية الشرعية وشم الجسم بالأسماء المقدسة، كاسم الجلالة والأنبياء والشخصيات المقدسة والأحوط وجوباً اجتناب وشم كل ما هو مقدس لأن جسد الإنسان يمر بحالات من النجاسات كالحدث الأكبر وغير ذلك. وإذا كان الوشم أو التاتو من الزينة وظاهراً للعيان فهو محرم شرعاً. والزينة يحددها العرف الملتزم والعقلائي وليس المجتمع الذي بات يتقبل الكثير من الأعراف البعيدة عن إسلامنا وتعاليمه".
* حاجة نفسية أم تقليد اجتماعي؟
السؤال الأساس والمحوري في الموضوع أعزائي القراء: لماذا يبادر أحدهم إلى وشْمِ نفسه بأشكال متعددة؟ وهل يأتي هذا السلوك في إطار الحاجة النفسية أم التقليد الاجتماعي؟
يؤكد د. محمود غنوي الاختصاصي في مجال علم النفس العيادي والتربوي أن الوشم لا يعبر عن حاجة فطرية أو أساس لدى الإنسان لأنه ليس سلوكاً عاماً عند كل الناس، بل هو مرتبط بمدى تأثر الفرد بالأجواء العامة، والإعلان، والمشاهير، يضاف إلى ذلك سهولة عملية الوشم في ظل تطور الأجهزة والتقنيات المعتمدة في هذا المجال دون أي رقابة أو نظام أو قانون يُتّبع. وفيما يتعلق بالفئات العمرية المهتمة بموضوع الوشم يعتبر أن الوشم كموضة يهم مختلف الفئات من مراهقين وبالغين فهو بالنسبة لبعضهم فرصة للتعبير عن الذات وعن التحرر من المعايير والقيم الاجتماعية والضوابط العامة.
* تاتو الحواجب
تتحدث (ميسون خ) عن تجربتها في عالم التاتو التي بدأتها منذ عشر سنوات تقريباً وتقول: إن الإقبال المتزايد على التاتو وتحديداً تاتو الحواجب قد أصبح نوعاً من الموضة والتقليد الاجتماعي بين النساء حتى في الأوساط الإسلامية الملتزمة.
السيدة فاطمة (35 عاماً) تتحدث عن التاتو معتبرة أنه ساعدها في حل مشكلة ضعف الحاجب مشيرة أن المبالغة في التاتو أمر مرفوض ولكن للضرورة أحكامها.
فيما تستغرب كوثر (26 عاماً) إقدام الفتيات الملتزمات بشكل غير عادي على التاتو وتحديداً تاتو الحواجب معتبرة أن الحديث عن ضعف في شعرة الحاجب لا يعدو عن كونه حجة تخفي وراءها رغبة المرأة في التزيّن ولفت انتباه الرجل، معتبرة أن التاتو يقلل من هيبة المرأة الملتزمة التي يجب أن تواجه هذا الغزو الثقافي بالوعي والتمسك بالالتزام والعفة.
مدير مكتب الوكيل الشرعي للإمام الخامنئي في لبنان سماحة الشيخ محمد توفيق المقداد وفي تعليقه على ظاهرة تاتو الحواجب يرى أنه يوجد اليوم ما يسمى "اختراع الحاجة" وهي ليست "حاجة" ولكنها نتيجة الانجذاب نحو تطبيق الثقافة الغربية والتي يُعتبر الوشم أحد تركيباتها. وفي كل الأحوال فإن الإنسان المسلم محكوم بالامتثال للحكم الشرعي وعليه أن لا يعتبر نفسه حاكماً على الحكم الشرعي.
* الآثار الصحيّة
ومن الناحية الصحية يؤكد د. نبيل عطوي وجود تداعيات صحيّة عند بعض السيدات نتيجة تاتو الحواجب متحدثاً عن حالة إحدى السيدات التي عانت لنحو عام من مشاكل جلدية بسبب تاتو الحواجب. إلا أن المفارقة أنه وبعد اكتمال العلاج عاودت تلك السيدة المحاولة ووشمت حاجبيها مرة جديدة. ويخلص د. عطوي إلى القول: "إن التاتو أصبح موضة نعيشها حتى في مجتماعاتنا الإسلامية، وحجّة ضعف الشعرة وخفتها في عملية وشم الحواجب تتردد على أسماعنا كثيراً".
ويلخص د. نبيل عطوي أبرز الآثار الصحية الجانبية للتاتو أو الوشم ومنها:
الحساسية (أكزيما) التي قد تنتج تجاه الأصبغة المستخدمة، وظهور تورم وتشقق في الجلد وظهور حبوب، كذلك عدم إمكانية التبرع بالدم لمدة عام كامل بعد هذه العملية.
غالبية من يقدم على استخدام الوشم هم الشباب الذين ما يلبثون أن يشعروا بالندم مع تقدم العمر نتيجة تغير نظرة الإنسان للموضوع. هذه هي الخلاصة التي يختم بها د. نبيل عطوي الاختصاصي في الأمراض الجلدية والزهرية لافتاً إلى أن إزالة التاتو ليست بالأمر السهل، فالليزر الذي يعتبر من أبرز وسائل الإزالة يحتاج لجلسات متكررة قد تمتدّ لأكثر من سنة كما هناك إمكانية لإزالة الوشم بالتقشير الكيميائي أو من خلال عملية جراحية لاستئصال المكان الموجود فيه الوشم.
* مسؤولية الوعي والمواجهة
من جهته أكّد د. محمود غنوي على أهمية عدم الاستغراق بتزيين جسدنا بالرموز والأوشام، فالجسد مجرد وعاء وأداة للإنسان ليتعلم ويزداد من الخبرات وليساهم في خدمة نفسه وتهذيبها وبناء مجتمعه والمساهمة في مسيرة الإنسان نحو الرقي والسمو.
وختاماً أعزائي القراء: إن الجسد هو أمانة الله في أعناقنا فلنحفظ الأمانة ولنرعها وليبقَ رضا الباري عزّ وجلّ هو غايتنا التي ننطلق منها للتفكير في كل صغيرة أو كبيرة في هذه الحياة. ولعل هذه هي القاعدة التي يجب أن نشمَ أنفسنا بها.