نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات: أقدس العقود

الشيخ أبو صالح عبّاس


﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).

•بيعٌ عظيم
يعلن الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن أجمل المعاملات، وأنفع التجارات، وهو عقده المقدّس، الذي أبرمه مع عباده المؤمنين، حيث اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، وجعل ثمن ذلك الجنّة، على أن يمارسوا مقتضيات هذه التجارة، من قتال في سبيل الله تعالى، على هدي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الصف: 10-13). واللطيف في هذه الآية أنّ الله تعالى، مع أنّه المالك الأصليّ للأنفس والأموال، وهي كما كلّ شيء في هذا الكون بيده تعالى، لا تخرج عن دائرة ملكه، كما في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء﴾ (آل عمران: 26)، وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 83)، قد خوّل(1) عباده إيّاها كما سائر النعم الأخرى، وهو التخويل الذي نقرأه في قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ﴾ (الأنعام: 94)، إلّا أنّه أنزل المؤمنين منزلة المالكين لها، وكأنّه يريد أن يصحّح عمليّة البيع والشراء، والتبادل بين الثمن والمثمن، وفي ذلك دلالة باهرة على مزيد عطاء الله، ولطفه، وكرمه اللامتناهي: ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 18)، ولأجل ذلك فهو تعالى يدعوهم إلى الاستبشار بهذا البيع العظيم الذي لا مثيل له ولا نظير.

•تجارةٌ في عين الله
تشير عبارة: ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ إلى معانٍ مهمّة، لا بدّ من التوقّف عندها والتدبّر فيها، وذلك أنّها قد تبدو للوهلة الأولى بمثابة تحصيل حاصل لحالة القتال المشار إليها بقوله تعالى: ﴿يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، فلماذا ذُكرت هنا، ولماذا لم تستغنِ الآية عنها بعبارة "يقاتلون في سبيل الله"؟ وهل هي في سياق تفصيل ما أُجمل في الآية الكريمة، أم أنّ ثمّة أموراً أخرى؟

في سياق الإجابة عن هذه الأسئلة، تجدر الإشارة إلى الأمور التالية:
أوّلاً: إلفات المؤمنين إلى أبرز الاحتمالات التي تنفتح عليها تجارتهم هذه.

ثانياً: الإشارة إلى أنّ لتجارتهم حالتين بارزتين، أولاهما أن يقتلوا الأعداءَ، والأخرى أن يقتلهم الأعداءُ، وفي الحالتين، تبقى التجارة قائمة، طالما أنّ هدفها الأصليّ متحقّق، وهو القتال في سبيل الله، ولأجل ذلك لا يقلق المؤمن من احتمالات القتال، طالما أنّها تقع في عين الله، وفي سبيله تعالى.

ثالثاً: عبارة ﴿فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ تشير إلى حالتين، لكلّ واحدة منهما دلالة خاصّة، أمّا الحالة الأولى، فهي قوله تعالى: ﴿فَيَقْتُلُونَ﴾، وهي تدلّ على تحصيل الجهوزيّة لقتل الأعداء في سبيل الله، وما يستدعيه ذلك من ضرورة تحصيل المقدّمات اللازمة، كالتعلّم والتدرّب، على قاعدة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60)، أمّا الحالة الثانية، فهي قوله تعالى: ﴿وَيُقْتَلُونَ﴾، فإنّها تدلّ على جهوزيّة أن تُقتل في سبيل الله، مع ما يعنيه ذلك من استعداد روحيّ للقاء الله تعالى، وما يقتضيه هذا الاستعداد من طاعة، وتقوى، وإبراء للذمّة من كلّ ما يحول دون رضى الله تعالى، وخصوصاً حقوق الآخرين، وما يحتاج إليه أيضاً من ارتباط وثيق بالله تعالى، وبرسوله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الأطهار عليهم السلام، وهذا كلّه تختصره مقالة الإمام الحسين عليه السلام : "من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا"(2).

•جهوزيّة القتل في سبيل الله
جهوزيّة القتل في سبيل الله تعالى تستدعي أن يطرح الانسان المؤمن على نفسه، وبشكلٍ دائم، هذه الأسئلة الثلاثة:
1- هل أمتلك مثل هذه الجهوزيّة؟

2- على فرض امتلاكي لها، ما هو المستوى الذي أتحلّى به منها؟

3- وإذا كانت تجارب الماضي تنبئ بخير، فهل ما زلت أحتفظ بالجهوزيّة نفسها التي كنت أتّصف بها، أم أنّ عوامل الحياة وأحوال النفس، من تقدّم في السنّ، أو زواج وأولاد، أو حيازة ممتلكات، أو اقتراف ذنوب، أو غير ذلك، قد أثّرت سلباً على جهوزيّتي هذه؟

إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تُحدّد مدى الجهوزيّة التي نتّصف بها، والعمل الدائم على تطوير الاستعداد، ورعاية الروح الجهاديّة بما يحافظ على الجهوزيّة المطلوبة، بل ويسهم في تطويرها كذلك.

•فوز الدنيا والآخرة
تبقى إشارتان مهمّتان، يمكن إبرازهما من خلال ضمّ الآيات المتقدّمة من سورة الصفّ، إلى آية الشراء المذكورة من سورة التوبة، وهما:

- الإشارة الأولى: إنّ هذه التجارة حتّى تصحَّ مواصفاتها، لا بدّ أن يتّصف بها المؤمن الذي يريد المتاجرة مع الله تعالى، وهي: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس.

- الإشارة الثانية: إنّ البشرى التي تحكي عنها الآية المذكورة من سورة التوبة، ليست محصورة في يوم القيامة، أو في نشأة الآخرة، إذ يمكن أن تتحقّق من خلال حصول ما يؤدّي إليها من نصر وفتح قريب في الدنيا، مضافاً إلى الفوز العظيم في الآخرة. ولعلّ قوله تعالى في الآية الثالثة عشرة من سورة الصفّ ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يشير إلى هذا المعنى.

•شروط التجارة الرابحة
وأخيراً، لا يسع المؤمن بين يدي هذه التجارة، إلّا أن يسعى جاهداً للمحافظة على ما باعه لربّه من أدران المعاصي، وأوساخ الذنوب -إذ من شروط التجارة، المحافظة على المثمن سالماً من العيوب، وإلّا فسد البيع، وسقطت المعاملة في الغرر، أو الغش- وأن يحافظ على استعداده الدائم للبذل والفداء في سبيل الله تعالى، وأن يتنبّه إلى شروط هذه التجارة كاملة، من تعميق إيمانه بربّه، وبرسوله، وبالعترة الأطهار، مضافاً إلى الجهاد والإنفاق المستمرّين في سبيل الله تعالى.


1.خوّل الشيء: أي جعله تحت سلطانه، مع مراقبته له؛ راجع: التحقيق في كلمات القرآن، حسن المصطفوي، ج3، ص150.
2.اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص38.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع