دانيال علي علوية*
"العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً"(1). ينطبق هذا الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه السلام بشكل دقيق على الحياة الأكاديمية للطالب الثانوي إذ يتحتم عليه أن يحسن اختيار تخصصّه الجامعي وبالتالي مهنته المستقبليّة. وأيّ خللٍ في ذلك ستكون عواقبه وخيمة على مستقبله وحياته كلّها حيث لا يزيده الخوض في الخيارات المهنيّة الخاطئة إلا المزيد من التخبّط والتردّد.
* مفترق طرق
عندما يعبر التلميذ من مرحلة دراسيّة إلى أخرى، تكون خياراته واضحة ومحدودة في الحلقات الأولى للتعليم، إلا أنّها تتشعّب تدريجّياً لتتوسع مع التقدّم في السنوات الدراسيّة الأعلى لتصل إلى أوجها عند انتهاء المرحلة الثانويّة وبداية المرحلة الجامعيّة. فهذه النقلة بين المرحلتين الثانويّة والجامعيّة تُعتبر الأخطر في حياة الطالب الأكاديمّية، لأنها تضعه أمام مفترق طرق متعدّدة، وأيّ خيار سيتخذه الطالب في هذه اللحظه سيؤثر على كامل مستقبله المهني وبالتالي على كافّة مسارات حياته المقبلة، ما يفسّر أهميّة برامج التوجيه المهني المرافقة للتلميذ خلال مرحلته الثانوية.
* التوجيه مفقود!
التوجيه المهني هو برنامج توعوي ودليل معلوماتي يقدّم المعطيات الضروريّة التي يحتاجها الطالب الثانوي لسلوك طريق تخصّصي محدّد يؤدّي به إلى مهنة متوافقة تماماً مع قدراته الذّاتيّة وميوله الشّخصيّة. هذا البرنامج يمكن أن يُقدَّم للتّلميذ على شكل جرعات مرحليّة مدمجة بالمنهاج الدّراسي، من خلال معلِّمين خبراء، أو من خلال برنامج مستقلّ وممنهج بذاته يُقدَّم بشكلٍ رديف خلال المرحلة الثانويّة من قبل جهات متخصّصة ومدربة لهذه الغاية. وإذا نظرنا للواقع التّربوي اللّبناني فإنّنا نجد للأسف أنّ كِلا الشّكلَين السابقين من التّوجيه مفقود من الأُطر الأكاديميّة لمعظم تلامذة المرحلة الثانوية في لبنان، وهذا ما يفسّر ظواهر عديدة من كساد المتخرّجين العاطلين عن العمل، أو كثرة المتسرّبين من التّعليم الجامعي بسبب عدم توافق الاختصاص الجامعي مع تطلّعاتهم وميولهم الذّاتية. هذا الخلل يضرب بالعمق في شريحة الشباب الأكثر أهمية وإنتاجية في المجتمعات النامية، كالمجتمع اللبناني على سبيل المثال.
* التوجيه المهني
لا يمكن للتوجيه المهني أن يعطي ثماراً ناضجة إذا حاولنا توجيه التلامذة عند نهاية المرحلة الثانويّة أو حتى عند بداية الصّف الثّالث الثانوي، لأنّ الاختيارات المهنية تعتمد على ما يجنيه التلميذ من معارف وتحصيل علمي خلال المرحلة الثانوية برمّتها، وعليه يجب أن تبدأ إشارات التّوعية التوجيهيّة للتّلميذ منذ الصّف الثّانوي الأوّل على الأقل وتتدرّج هذه الإشارات صعوداً مع تقدّمه في المرحلة الثانوية ليتمكّن في نهايتها من اتّخاذ القرار المناسب والمتوافق مع القدرات الشخصيّة والميول الذّاتية للطالب.
* نحو مجتمع متوازن
لعلّه من أعظم نِعم الخالق عزّ وجلّ على الإنسان أن خلق للبشر طبائع وشخصيّات وقدرات وميولاً متفاوتة إلى حدّ التكامل، لتعزيز إنتاج مجتمعات متوازنة على صعيد توظيف كافّة الطاقات والإمكانيات لتنمية الجماعات الإنسانية. إذ لا يمكن أن يستمرّ المجتمع إذا ما قام جميع أفراده بلعب نفس الدور ومارسوا نفس المهن. وهذا يعني أن كلّ فرد في المجتمع مطلوب منه أن يلعب دوراً مختلفاً عن دور الآخرين، من خلال ممارسة مهنة محددة، وهذا يضعنا أمام وجوب البحث عن الشروط والعوامل التي تؤسّس لتوجيه الفرد باتّجاه الدّور الأفضل له في المجتمع عبر المهنة الأنسب الّتي يجب أن يمارسها. هناك عاملان أساسان حاكمان في اختيار المهنة، العامل الداخلي أو الذاتي النابع من الفرد (الباحث عن المهنة) وعامل آخر خارجي وهو البيئة الاجتماعيّة. ففي جولة سريعة على أنماط اختيار المِهن في المجتمعات، كان العامل الخارجي في السابق يلعب الدّور الأبرز في تحديد اختيارات الأفراد للمهن من خلال منظومة العائلة مثلاً، حيث يتحتّم على الولد أن يرث مهنة أبيه دون أن تتاح له أيّة فرصة للاختيار، إلا أن العقود الأخيرة شهدت العديد من الدراسات التي غلّبت حاكميّة العامل الذاتي على تفعيل الاختيار لتحقيق المزيد من الدافعيّة والاستقلاليّة.
* مقياس "هولاند"
من هذه الاختبارات يمكن أن نتطّرق إلى مقياس "هولاند"الذي يحتوي على أربع عشرة فقرة هي عبارة عن مهن مختلفة ومحددة وكل فقرة منها عبارة عن اسم مهنة محدد ويطلب من الفرد الخاضع للاختبار أن يختار ما يفضّل من مهن محددة, بوضع دائرة حول كلمة (أميل) لكل مهنة يفضّلها وبوضع دائرة حول كلمة (لا أميل) لكل مهنة لا يفضلها، وكذلك الأمر بالنسبة للمهن التي (يستطيع) أن يمارسها أو (لا يستطيع). أما الاختبارات التي وضعها هولاند فهي: قائمة التفضيلات المهنية VPI واختبار الموجه الذاتي SDST. وأوضح هولاند أنه يوجد داخل كل مجال مهني مستويات مختلفة يمكن الالتحاق بها وتكون مبنية على مستوى قرار الفرد وتقييمه لذاته. كما أن مقياس هولاند قد أشار بشكلٍ رئيس إلى معيارَين داخليين أساسَيْن لاختيار المهنة وهما: الميول الذّاتية والقدرات الشخّصية، وألمح بدرجة أقل إلى العوامل الخارجيّة المرتبطة بالبيئة والمجتمع. فقد اعتبر أنّه لا يكفي الميل الوجداني نحو المهنة فقط لكي نتمكّن من ممارستها، فلا بد لنا أيضاً من أن نمتلك القدرات والإمكانيات الفكرية والمعرفيّة والحركيّة لنتمكّن من ذلك. وهذا ما دفع هولاند في تحديد اختباره المهني إلى الاعتماد على الميول والقدرات معاً كدعامتَين أساسَيْن لتحديد التوجّهات المهنيّة.
بالإضافة إلى القدرات والميول التي طرحها هولاند لا بُدّ من أن نأخذ بالاعتبار الفرص المتاحة لتعلّم واحتراف المهنة، فالحصول على الفرصة الأنسَب، التي تمكّن الطالب من متابعة دراسته، تعتبر أيضاً من العوامل المهمّة في تحديد الاختيارات المهنيّة، لأنّ الطالب عليه أن يستغل أفضل فرص التعليم المتاحة وبأقلّ قدرٍ ممكن من الخسارة الماديّة والمعنوية. أما العامل الأخير فيكون في المعلومات الأساس التي تبيّن كافّة تفاصيل وتحدّيات ومشاكل وإيجابيّات المهنة، فلكلِّ مهنة خصائص وظروفٌ وتحديّات ومخاطر تختلف عن الأخرى، وعلى الطالب أن يعي كافة هذه الجوانب ومدى تأقلمه معها وقدرته على تحمل أعبائها وضغوطها، فبعض المهن يتطّلب قدرات بدنية عالية، أو تركيزاً فكريّاً معيناً، وبعضها يتطلب التعامل مع مواقف حرجة توجب اتخاذ قرارات سريعة، وأخرى تدفع للعمل في محيط بيئي قاسٍ، وبعضها يتطلب شروطاً صحية صعبة أو ظروفاً اجتماعية دقيقة..
* اختيار الجامعة
بعد تحديد التلميذ للمهنة المستقبلّية عليه أن يحسن اختيار المؤسسة الجامعية التي تؤهله علميّاً وأكاديميّاً وقانونيّاً لممارستها، ولا يكمن دور الجامعة فقط في تأمين المتون الدراسية المناسبة لتعلم المهنة وإتقانها، بل يجب على التلميذ أن ينتبه إلى البعد القانوني ومدى مطابقة الجامعة مع القوانين الحكوميّة المعنيّة بالتعليم الجامعي، وهذا الأمر يحتلُّ مكانة هامة في معايير اختيار الجامعة، ولاسيّما إن تطرّقنا إلى الواقع الأكاديمي المتردّي للكثير من مؤسّسات التّعليم الجامعي في لبنان. وعليه يبرز العديد من المعايير والشروط الضّرورية لاختيار الاختصاص الجامعي ومنها:
1ـ أن تكون الجامعة مرخّصة ومعترفاً بها داخلياً (وزارة التربية) وخارجياً (الجامعات في دول العالم).
2ـ أن يكون الاختصاص الذي يدرسه الطالب مُعْتَرفاً به أيضاً ومرخّصاً من قبل الجهات الحكوميّة المختصّة، إذ لا يكفي أن تكون الجامعة مرخّصة بذاتها، بل يجب أن تكون الكليّة التابعة للجامعة والتي تدرّس هذا الاختصاص مرخصة هي أيضاً. لأنّ بعض الجامعات كان يعمد إلى تدريس اختصاصات جديدة قبل الحصول على الترخيص المناسب.
3ـ أن يراعى في اختيار الجامعة معايير الجودة في التعليم والمستوى الأكاديمي الراقي، وصيت الجامعة وشهرتها عند أصحاب العمل، لأن سوق العمل يعتمد على اختيار الخريجين بحسب تصنيف جامعاتهم.
4ـ أن يبدأ بتحديد المهنة قبل اختيار الجامعة، ومن بعدها يبحث عن الجامعة المتوافقة مع خياراته المهنية.
5ـ أن يراعى في اختيار الجامعة حجم أقساطها ومدى قدرته على تسديدها طوال سنوات الدراسة، لأنّ أيّ خلل في تسديد الأقساط سيحرم الطالب من متابعة دراسته بالإضافة إلى ضياع السنوات السابقة، فالشهادة الجامعّية لا تُعطى إلا عند اكتمال كل المتون والمواد واجتياز كافة الامتحانات.
6ـ أن يراعى في اختيار الجامعة بُعْدها الجغرافي المناسب عن سكن الطالب تجنّباً لمشاكل المواصلات وتكاليف الانتقال والسكن وغيرها من العوائق التي تحدّ من تقدّم الطالب الأكاديمي.
وأخيراً، لا بدّ من الإشارة إلى أنه يجب أن يتم الربط في اختيار المهنة بسوق العمل وحجم المتخرجين سنوياً من الجامعات تجنباً لكساد المتخرجين والبطالة المتفشية في أوساط الشباب الجامعيين.
* باحث ومرشد في مجال التوجيه المهني.
الكافي، الكليني، ج 1، ص 43.