أميرة برغل*
تعتبر ظاهرة مشاركة المرأة للرجل في حقل العمل من أهم سمات عصر الحداثة وما بعد الحداثة. واللافت في هذه الظاهرة اتساعها بشكل سريع لتشمل جميع المجتمعات بما فيها تلك التي حاولت أن تكون في منأى عن ترددات موجات العولمة الثقافية.
* ضرورة معاصرة
ويعود انتشار هذه الظاهرة بهذه الوتيرة السريعة، وغزوها لكل المجتمعات، بما فيها المجتمعات الإسلامية، إلى سببين رئيسين:
الأول: اقتصادي؛ فالحقيقة التي لا مجال لإنكارها أنَّ طبيعة النظام الاقتصادي الذي ساد في الغرب والشَّرق، على حدٍ سواء، أدَّى إلى ضائقة اقتصادية لدى الفئات المتوسطة والفقيرة من النَّاس، ما حتَّم على المرأة تحمّل الأعباء المالية، جنباً إلى جنب مع زوجها، داخل الأسرة.
والثاني: ثقافي؛ فالنظرة إلى دور المرأة في المجتمع قد تبدلت، فبعد أن كان هذا الدور، في نظر الغالبية العظمى من الرجال والنساء، محصوراً داخل المنزل، أصبح حالياً، حتى لدى الإسلاميين، متّسعاً ليشمل أدواراً اجتماعية كثيرة وصولاً إلى حق المشاركة السياسيّة والاقتصاديّة. ويعبّر السيد القائد"دام ظله" عن هذه النظرة قائلاً: "على جميع أفراد المجتمع والرجال في البلد الإسلامي أن يعرفوا نظرة الإسلام حول المرأة وأهمية مشاركة المرأة في ميادين الحياة وممارسة المرأة لأنشطتها وتعليمها وعملها ومساعيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية ودورها في العائلة وخارج نطاق العائلة والمنزل"(1). وسواء كان العمل خارج المنزل، رسالياً أم نفعياً، فإن انخراط المرأة في سوق العمل، حمَّلها مسؤوليات إضافية وتسبب لها في الكثير من المتاعب والعقبات. فما هي أهم المشاكل والصعوبات التي تواجه المرأة العاملة؟ وما هي الحلول التي يمكنها اللجوء إليها لتذليل تلك العقبات؟ وإلى أي مدى يمكنها أن تنجح في الفصل بين هموم العمل وهموم المنزل؟ هذا ما سوف نتطرق إليه باقتضاب في هذه المقالة.
* مشاكل المرأة العاملة
لم يحرِّم الباري عزّ وجلّ على المرأة العمل خارج المنزل، سواء كان بهدف تكسُّبي أم تطوُّعي، إلاَّ أنه أعفاها من مسؤولية الإنفاق على نفسها، أمّاً كانت أم زوجة أم ابنة، وألقى بهذه المسؤولية على عاتق الرجل. وإن دلّ ذلك على شيء فإنما يدلُّ على أن العمل خارج المنزل سيكون له على المرأة من التبعات المرهقة ما يمكن أن يحول دون أدائها لمهتمها الأساس، التي خلقها الله من أجلها والتي فيها تكاملها الحقيقي واستقرار حياتها وحياة أسرتها، ألا وهي دورها كزوجة وكأمّ. وتدل التجربة العملية على إمكانية تعرض المرأة العاملة لمشاكل ومصاعب على أصعدة ثلاثة:
أ- على الصعيد الجسدي
قلمّا يتاح للمرأة العاملة، خاصة إذا كانت متزوجة ولديها أطفال صغار، مراعاة حقوقها الجسدية الأساسية، كحقها في النوم الكافي أو في تناول الطعام في جو من البهجة أو في تفريغ وقت للراحة، بل قد يصل بها الحال إلى حد تأجيل الكثير من المراجعات الطبية الضرورية بسبب ضيق الوقت، ناهيك عما يمكن أن تتعرض له من متاعب جسدية إضافية بحسب ظروف عملها ونوعيته.
ب- على الصعيد النفسي
تعتبر الضغوط النفسية أقسى من الجسدية على المرأة فهي بحاجة دائماً للتخطيط كي تتلافى التقصير، الذي تتحمّل مسؤوليته تارةً من صاحب العمل الذي لا شأن له بظروفها العائلية أو من رب البيت الذي ليس مستعداً لتحمُّل أي خلل في نظام الحياة التي يحب، وإن تحمَّل فعلى مضض. وعلى افتراض تحمّل الزوج.... فماذا عن الأولاد؟ فمن الموارد أيضاً، الضغوط الناتجة من تعثر الأداء التربوي للأولاد؛ فالتربية تحتاج إلى دراية ووقت وصبر وأعصاب هادئة إذ "لا أدب مع غضب"(2) فكيف السبيل إذاً، والوقت قصير والجسد مُتعَب، إذا لم يكن هناك من معين؟ ولا ينحصر الضغط النفسي للمرأة العاملة في إحساسها بالتقصير داخل المنزل أو داخل العمل فحسب، فالواجبات الاجتماعية أيضاً من مسؤولياتها....! فعليها أن لا يفوتها واجب، خاصة مع ذوي القربى، وفي كثير من الأحيان عليها أن تنوب عن زوجها إن كان مشغولاً، وإلاَّ اعتبرت ممن ينقصهم الكثير من اللياقات.
ج- على الصعيد الروحي
وتبقى الخسارة الكبرى على الصعيد الروحي، فكما يحتاج الجسد للغذاء ليقوى ويستمر، كذلك الروح. وغذاء الروح في العلم(3) والعبادة والتفكر، وهو ما لا يتسنى عموماً للمرأة العاملة الوقت الكافي له. فالحقيقة التي لا شك فيها هي أن توفيق الزوج والزوجة وأولادهما بل سعادة الأسرة وتآلفها وتماسكها وتعاملها الأخلاقي، رهن بمدى الارتقاء الروحي للوالدين وللأم خصوصاً. يقول السيد القائد"دام ظله" في إشارة لهذا المعنى: "فإنها (أي المرأة) في الوقت الذي تكون فيه جبلاً راسخاً من الإيمان تعمل على إرواء الظامئين من ينبوع عاطفتها وحبّها ومشاعرها وصبرها وتحمّلها. ويمكن لمثل هذا الحضن الرؤوف أن يعمل على تربية الإنسان. ولولا وجود المرأة بما تتمتع به من هذه الصفات لما كان هناك للإنسانية من معنى. وهذه هي قيمة المرأة وشخصيتها، التي ليس بإمكان العقول المادية الغربية المتحجرة أن تفهمها أو تدركها"(4).
* حلول لتذليل العقبات
أمام هذه العقبات المحتملة، بل المحققة في بعض منها على الأقل؛ ما هو الحل، إذا ما فرضت الظروف الاقتصادية أو الاجتماعية على المرأة العمل؟ الحل من وجهة نظري، يبدأ بالاعتراف بالمشكلة. فعلى الزوجة أن تعترف أن مزاولة العمل خارج المنزل هو بحد ذاته مشكلة تحتاج إلى حل. ولتتحاور بصراحة وشجاعة مع زوجها حول الأمر. فإذا كان عمل المرأة ضرورة للأسرة فعلى الزوج أن يتعاون معها لتذليل العقبات ولا يدير ظهره للمشكلة. عندئذٍ، فإن نصف هذه الضغوط، على الأقل، يمكن تلافيها. ولنا في علي والزهراء عليها السلام أسوة حيث ضمنت فاطمة عليها السلام لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب نقل الحطب وأن يجيء بالطعام(5). أما إذا كان الزوج غير قادر أو غير جاهز للتعاون الكافي فعلى الزوجة إن كان عملها، في نظرها، ملزماً أن تتدبر مساندين آخرين كالأهل أو بيت العم أو استقدام أحد للخدمة. وفي حال عدم إمكانية المساندة أو الاستخدام فأمام المرأة عدة خيارات:
1ـ أن تتحمل بمفردها تبعات عملها شرط أن يكون لديها كفاءة عالية، تستطيع من خلالها التعويض عن كمية الوقت ونوعيته؛ بالشكل الذي لا يؤثر على راحة الزوج والأولاد. وقد أشار سماحة السيد القائد "دام ظله" إلى هذه النصيحة في إحدى خطبه الموجَّهة للنساء قائلاً: "بعض النساء لديهن أعمالهن خارج البيت... ولكن عليهن ملاحظة نصيب البيت أيضاً. ونصيب العائلة والبيت، ككل شيء آخر، يمكن التضحية بكميته في سبيل كيفيته، أي الانتقاص من كميته. تواجد المرأة في البيت على مدار الساعة له معنى ولكن إذا انتقصتم من هذه الأربع وعشرين ساعة ورفعتم المستوى النوعي سيكتسب تواجدها في البيت معنى آخر"(6).
2ـ أن تختار الزوجة نوعية عمل يُسمح فيه بدوام مرن بالشكل الذي يسمح لها بالتوفيق بين عملها داخل المنزل ومسؤوليتها في الخارج.
3ـ أن تترك الزوجة العمل كلياً أو أن تؤجله إلى فترة ما بعد دخول الأولاد إلى المدارس وتتدبر شؤون المنزل بحسب مدخول الزوج وإمكانياته، إذ ليس من عمل على الإطلاق أهم وأكثر ثواباً من جعل الأسرة سكناً حقيقياً للزوج ومن تنشئة الأولاد تنشئة دينية وأخلاقية وعلمية تعدهم لدور الخلافة في الأرض. يقول السيد القائد"دام ظله": "إذا وجدتم أن عملكم يضر بهذا الجانب فينبغي التفكير بحل. هذا شيء مهم وأساس إلاَّ في الحالات الضرورية. ثمة في جميع الأمور ضرورات خارج نطاق القواعد المهم في كل أعمال المرأة تربية الأولاد وتعزيز معنويات زوجها للخوض في السوح الكبرى"(7).
* إمكانية الفصل بين هموم المنزل والعمل
لا شك أن حمل همّ العمل والمنزل معاً ليس بالأمر السهل، ولكننا نعتقد بأنه إن حظيت المرأة العاملة بالتفهم والتعاون والتقدير، من قبل زوجها، وآمنت بحق أن دورها الأول والأساس وميدان تميزها الحقيقي هو في نجاحها كزوجة وكأم فسوف تستطيع بلا شك وضع جدول أولويات يخفف عليها الضغط ويجعلها قادرة على الفصل بين هموم المنزل وهموم العمل. إن النظرة الواقعية لما آلت إليه أوضاع المجتمعات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية تفرض علينا أن نقارب موضوع عمل المرأة بنظرة شاملة تأخذ بعين الاعتبار كل العناصر المؤثرة في صلاح كلٍ من الأسرة والمجتمع، وأن نتجنب اجترار القوالب الجامدة التي مرت بها بعض المجتمعات القديمة أو الحديثة. ولنهتدِ بهدي قائد هذه الأمة المسدَّد في قوله الذي يتطرق فيه إلى هذا الموضوع بمرونة كبيرة تنم عن بُعد نظر وتصوُّر شامل للمهام الملقاة على عاتق النساء والرجال كافة من أجل قيام حكومة العدل الإلهية أو التمهيد لها. يقول سماحته "دام ظله": "البعض يعملون بالإفراط والبعض بالتفريط. البعض يقولون: لأن النشاط الاجتماعي لا يسمح للمرأة برعايتها بيتها وزوجها وأبنائها إذن يجب أن لا تزاول النشاط الاجتماعي. والبعض يقولون: لأن البيت والزوج والأبناء لا يسمحون للمرأة بالنشاط الاجتماعي إذن على المرأة أن تترك زوجها وأبناءها. كلا التصورين خاطئ. يجب أن لا تترك المرأة هذا من أجل ذاك ولا ذاك من أجل هذا"(8).
* باحثة ومستشارة في الشأن التربوي والأسري
(1) من مقالة حول حقوق المرأة ودورها في المجتمع، مقرر صادر عن معهد المعارف الحكمية (ص34 - 35).
(2) أمير المؤمنين عليه السلام، ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص 57.
(3) يقول السيد القائد "دام ظله" : "البعض يظن أن الفتيات يجب أن لا يدرسن، إنه خطأ واشتباه... لطالما اهتم الإسلام بالعلم والتعلم واعتبر العلم حياة الدين...". من بحث حول المرأة علم وعمل وجهاد، إعداد ونشر مركز الإمام الخميني (ص3).
(4) من مقالة عن السيدة زينب مجلة بقية الله العدد 177.
(5) بحار الأنوار، المجلسي، ج 14، ص 197.
(6) مقرر معهد المعارف الحكمية حول خطب الإمام (ص40).
(7) مقرر معهد المعارف الحكمية حول خطب الإمام (ص41).
(8) من بحث حول المرأة علم وعمل وجهاد، إعداد ونشر مركز الإمام الخميني (ص 28)