د. حسن يوسف حطيط*
أدخل الإنسان المعاصر نفسه في دوامة قاتلة لا خلاص منها إلا بجهد عظيم وبعد نفاد وقت طويل ألا وهي استعمال المبيدات الزراعية الكيميائية المسبّبة للسرطان وغيره من الآفات الصحية في المحاصيل الزراعية وخاصة في زراعة الفواكه والخضراوات. ولم يقتصر الضرر الناتج عن هذا "العبث" في الطبيعة والإفراط في الاستخدامات غير المشؤومة لهذه المواد المصنّعة والقاتلة في معظم الأحيان على تلويث المنتوجات الزراعية فقط، بل تعدّاها ليشمل تلويث المياه الجوفية ومياه الينابيع والأنهار والإضرار بأصناف كثيرة من الكائنات الحية كالطيور والأسماك والحيوانات الأليفة والتي يعتمد الإنسان على لحومها في غذائه اليومي.
الأسمدة الكيميائية تخفيض للكلفة استند الإنسان في دوافعه "الخبيثة" هذه إلى دراساته الاقتصادية والمالية وحاجاته المتعاظمة لتخفيض الكلفة عبر استبدال الأسمدة العضوية بأخرى كيميائية ورفع مستويات الإنتاج إلى أقصى ما يمكن عبر التخلص من الآفات الزراعية كالفطريات والحشرات والديدان وغيرها بشتى الوسائل العلمية وغير العلمية وبشتى الأساليب الأخلاقية وغير الأخلاقية من دون مراعاة القيم الإنسانية ومن دون الالتفات إلى المعايير الصحية ومبادىء السلامة العامة.
* تبريرات واهية
أما وقد تفاقمت المشكلة وتعاظمت وظهرت الآثار القاتلة لهذه المبيدات الكيميائية على الإنسان نفسه، وبعدما أصابت نظامه البيئي بخلل كبير لا صلاح له إلا بجهد كبير, أخذ الإنسان يتملص من مسؤوليته عن هذه الكارثة البيئيّة والصحيّة عبر تبرير أفعاله بجهله لأخطار هذه المواد في بداية الأمر وبصعوبة القضاء على الآفات الزراعية المتزايدة وبشحّ المياه المحتسبة للزراعة وبضيق المساحـات المخصّصة للإنتاج الزراعي. ولمّا لم ينفع التجاهل والإهمال والتنصّل أخذ يسعى جاهداً لحصر المشاكل الناتجة عن هذا "العبث" وترتيب أولويّاته في مواجهتها مدّعياً تنظيم حملات إرشادية ووقائية ولكن من دون جدوى حتى الآن, فالأمور قد تعسرت وتفاقمت وأضيفت إليها الآثار السلبية للاحتباس الحراري ومشاكل نقص الغذاء في العالم والكوارث الطبيعية والحروب وغيرها من المشاكل التي تشلّ حركة الهيئات العالمية والحكومات المحلية.
* أمراض المبيدات الكيميائية
توزّعت آثار استخدام المبيدات الكيميائية على الصحة في محاور عدّة، منها ما هو سريع الظهور وقصير الأجل، ومنها ما هو بطيء وطويل الأمد مسبّبة مشاكل صحيّة جمَّة. لكنَّ الصورة الإجمالية للكارثة لم تتّضح حتى الآن لحاجة المراقبين والمتابعين إلى وقت طويل لرصد الآثار وحصرها والتأكّد من أسبابها وتصنيفها ومتابعتها ومراقبة تطوّرها. وقد تصدرت لائحة الآثار والمشكلات الصحية المكتشفة حتى يومنا هذا والمرتبطة بهذه الآفة الكبرى الأمراض التالية:
1 - السرطان، (سرطان الجهاز اللمفاوي, سرطان المثانة, سرطان الجهاز الهضمي, سرطان الدم, سرطان الثدي, سرطان الخصيتين, سرطان البروستات,...).
2-العقم واضطرابات الجهاز التناسلي.
3 - أمراض الجهاز العصبي، الجهاز التنفسي، جهاز المناعة والجهاز الهضمي.
4 - أمراض الغدد والاضطرابات الهرمونية.
5 -ارتفاع ضغط الدم.
6 - فقدان الذاكرة.
7 - تلف الكبد، تلف الدماغ والأعصاب.
8 -الحساسية.
9 -مرض باركنسون.
* في مواجهة المشكلة
لم يقل الإنسان الحقيقة حين تنصّل من مسؤولياته حيال هذه الأزمة، فهو الذي يعرف تمام المعرفة أنه هو نفسه الذي وضع هذه التركيبات الكيميائية الخطيرة وهو الذي أدخل فيها مواد سامّة كالزئبق والكبريت والفوسفور والرصاص والنحاس وغيرها بحجّة محاربة الجراد والفطريات والجراثيم الزراعية, وهو الذي لعب دوراً محورياً في التسبّب في ظاهرة الاحتباس الحراري وهيّأ لها الأسباب وعمل لها متسلحاً بضرورات النهضة الصناعية وضرورات التطوّر حتى حاصرته نتائجها وأحاطته آثارها الصحية والبيئية بالنكبات وجعلت مساعيه لوضع الحلول واستدراك الوضع, قبل فوات الأوان, بعيدة المنال.
* حلول للمواجهة
أما وقد وقعت الكارثة وظهرت آثارها البيئية والصحيّة إلى العلن وصارت الأمراض والأعراض تصيب الإنسان قبل النبات والحيوان وتنتقل إلى أطفاله وذرّيته أصبح من اللازم على الإنسان أن يبادر إلى التفكير بما يمكن علاجه ومواجهته ضمن الظروف الحالية حتى لا تتفاقم الأمور أكثر! ولهذا بدأ الحديث عن نشر ثقافة الزراعات العضوية أو الطبيعية والتشجيع عليها ودعمها من قبل الهيئات والحكومات وترشيد استخدام المبيدات الزراعية ومراقبتها من قبل الجهات الحكومية المختصة والتشدّد في وضع المعايير عند السماح بها أو خفض النسب المسموحة إلى الحدود الممكنة والمقبولة صحيّاً وبيئيّاً ومعاقبة من يتعدّاها ويخرق القوانين المرعيّة الإجراء وتحسين نوعياتها عبر تقليل نسبة السموم فيها.... ولكن الأمر ليس بالسهل, فكل الحلول السابقة كانت وستبقى مكلفة جداً، ومنتجات الزراعات العضوية ما زالت, إلى الآن, أغلى وأندر بكثير من المنتجات "المعالجة" الأخرى، والسّماد الطبيعي قليل الوفرة بسبب ضعف الانتاج الحيواني ونقص المساحات المخصّصة للمراعي وتدنّي نسبة الدّعم المرصود لميزانيات الزراعة في الدول النامية والخلل المناخي-البيئي العام الذي أصاب العالم بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري. وإذا لم يبادر العالم برمّته، والدول بأجمعها للتضامن والتعاون ورصد الأموال وتكثيف الأبحاث لسدّ الثغرات في الدول الفقيرة أو النامية، واستعادة النظم البيئية المتوازنة وتصحيح الخلل المناخي قدر الإمكان ووقف الإضرار بالطبيعة, فإن الأمور آيلة, لا محالة, إلى ما لا تحمد عقباه!
(*) استشاري أمراض الأنسجة والخلايا ورئيس شعبة في هيئة الصحة, حكومة دبي.