مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

حِيَل التطبيع الفنّيّ والرياضيّ

السيد د. علي عبد الله فضل الله(*)

 



التطبيع هو جعل الشيء طبيعيّاً، فتتقبّله الناس، ويصبح مشروعاً. ويلجأ للتطبيع كلّ من يعرف أنّ موقعه لدى شعب معيّن أو جمهور خاصّ ملتبس وغير مقبول، فيعتمد لذلك وسائل وطرائق تهدم العداوات وتبني الرغبة في بناء التواصل. وفي مقابله، تقع فكرة "خلق العدوّ"، فيكون هناك دوماً صراع بين فكرتين، يربح فيهما الأكثر ثقةً والأقلّ غباءً، والأطول صبراً والأشدّ ذكاءً. ويُعدّ المجالان الفنيّ والرياضيّ حيلةً ليعبر العدوّ من خلالهما إلينا. كيف؟

•تطوّر أساليب التطبيع
تطوّرت أساليب "تطبيع العدوّ"، أو "خلقه"، مع مرور السنوات وتراكم التجارب وتدوينها وتحويلها إلى نظريّات. في الماضي، كانت الأساليب مباشرة، وتأخذ طابع البيانات الصحفيّة، ثمّ تطوّرت إلى بثّ معلومات كثير منها يكون مضلّلاً، ثمّ أصبحت "غير تماثليّة"، بمعنى محاولات إسقاط الأفكار على الجمهور المستهدف، بغضّ النظر عن التقدير لمستوى استجابته للأفكار الوافدة. أمّا المرحلة الأخيرة، وهي الأكثر دهاءً، فأصبح التطبيع فيها تماثليّاً (Symmetrical)، ومعنى هذا المصطلح أنّه بات يتّخذ مساراً باتجاهين: الاتّجاه الأوّل من المنظّمة أو الدولة الساعية لترويج التطبيع، والاتّجاه الثاني الذي يسعى أن يفهم الجمهور كما هو، وليس كما يؤمّل أن يكون.

ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّ القائمين على جهود التطبيع باتوا يقضون وقتاً أكثر في البحث عن المجتمعات المستهدفة، ونقاط ضعفها وقوّتها، ومنافذ التسرّب إلى أفكارها، قبل وضع برامج العمل، وتنفيذها، وتقييمها، وصاروا يكثرون من استخدام طرائق "العلاقات العامّة" الحديثة لتحقيق اختراقات فعّالة وسريعة.

•حيلة التعاون مع العدوّ عبر أصدقائه
وبعيداً عن النظريّات، يمكن تقديم المثال التالي: التعامل المباشر مع جهة معادية يأنف منه الشعب. حسناً، يمكن جعل التعاون غير مباشر. ما الضير في المشاركة في محاضرة يلقيها "خبير" معادٍ في مؤتمر في الخارج؟ ما المشكلة في الاستفادة من ممثّل معادٍ في فيلم مشترك؟ أليس من "التعقيد" الاعتراض على عمل فنّيّ "أبدعته" أيادٍ معادية؟ لماذا التوقّف عند مباراة رياضيّة ضمن تصفيات صادف أنّها تجمع فريقاً وطنيّاً مع الفريق المعادي؟

مثل هذه الأسئلة تتكاثر كالطحالب، وتنمو على ضفاف الجهل بأثر الصورة والإعلام على المجتمعات. في شعوبنا خير كثير، لكنّ مسؤوليّة النخب تقتضي مقاومة حَرف القيم الأصيلة عن مسارها البنّاء للمجتمع. هنا بالتحديد تأتي خطورة "قرن" حضور ما للعدو، بقيم فنيّة، ورياضيّة، وإبداعيّة. فالفن، والرياضة، والسياحة، والإعلام، والإبداع، وغيرها مجالات لها تقديرها ومساحات من الحريّة في مزاولتها وتطويرها بالتأكيد، لكن ليس مقبولاً تبسيط قيام العدوّ باختراق الساحات الوطنيّة تحت أيّ مسمى.

•وهم الاعتراف
هناك من يتحجّج بالقول: العالم يعترف بالعدوّ، واعتراضنا لن يقدّم ولا يؤخّر. وهذا غير صحيح، فالعدوّ نفسه ينزعج جدّاً من محاربة التطبيع. وإذا تحدّثنا عن"العدوّ الإسرائيليّ"، فمجتمعه قلق أساساً، وفي صميمه يدرك أنّ وجوده في منطقتنا غير طبيعيّ، وهم أحرص الناس على "حياة"، دون أل التعريف، يعني أيّ حياة؛ لذلك، فإنّ اعتراف بضعِ دولٍ به ليس كافياً لاعتبار "شرعيّته" قائمة. وللعلم، فإنّ "إسرائيل" هي أقلّ "دولة" في العالم اعترافاً، وهي نتيجة لتوازنات قوى راهنة، ومتى تغيّرت هذه التوازنات، تنتهي. وأيضاً، فإنّ "العدوّ الإسرائيليّ" يتوتّر من حملات محاربة التطبيع، ومن لا يعلم فليقرأ.

•لمن يتذرّع بالقواعد
ولكلّ الذين يتذرّعون بأنّ قواعد اللعبة أو المؤتمر تفرض عليهم لمواجهة أو التعاون مع الفريق المعادي في المجالات الفنيّة والرياضية. مهلاً، أيّها أهمّ، القيم الوطنيّة والفكريّة، أم الربح في مباراة أو منافسة محدودة؟ وما الذي يحقّق الاعتزاز الوطنيّ أكثر، الاعتراض الواثق على مشاركة العدوّ، أم خفض الرؤوس والخضوع للغير؟ لذلك، من الأجدر بالحكومات والقوى الفاعلة في المجتمعات السعي لتعزيز المستويات الفنيّة، والرياضيّة، والإبداعيّة على كلّ الصعد، وتخصيص موارد حقيقيّة لذلك، وستفرض الكفاءة والبراعة نفسها هنا، حتّى لو أُحيلت الجوائز لآخرين.

•في الرياضة
في زمن التواصل المكثّف والبثّ المباشر، تُحرِّك الرياضة ملايين البشر، وتُعلَّق صور الأبطال في غرف نوم الشباب وتوضع في هواتفهم حول العالم. هذا واقع، وهو ما يدفع سعاة التطبيع إلى الاهتمام بتصدير أسماء لاعبيهم وإنجازات فرقهم قدر الإمكان. كلّ نجاح في هذا المجال يُصرف في تساكن ابتسامات المشجّعين مع انتماءات اللاعبين. ويوجد هنا أمر دقيق، فبعض مشاهير اللاعبين ينتمون إلى دول شتّى، لكنّهم يصرّحون بتأييد كيان "العدوّ الإسرائيليّ" علناً، وقد لا يجدون اعتراضاً لدى شبابنا. هنا، تكمن خطورة معيّنة، فقبول هذه التصريحات هو حكماً تطبيع نفسي لا يتوقّف أثره على الشباب المشجعين لهؤلاء فقط، بل على محيطهم أيضاً.

•في الفنّ والإبداع
تملأ الأعمال الفنيّة الفضاء العالميّ اليوم، مع غلبة كبيرة للغثّ منها والتجاريّ. في الأساس، الفنّ قيمة بشريّة مهمّة جدّاً، وتعزيزها هدف للشعوب، كما أنّ دعم المبادرات والأعمال الإبداعيّة واجب لا يجوز التهاون به. في المقابل، فإنّ المؤسّسات المنتجة للأعمال الفنيّة، بالتحديد، بعيدة عن قيم الإسلام بغالبيّتها، وهذا بحث آخر. أمّا في جهود التطبيع، فهنا مثال للتأمّل:

ممثّلة "إسرائيليّة" تشارك في أعمال هوليوود باهظة الكلفة وذات جودة عالية. تشتري دور السينما المحليّة حقوق بثّ هذه الأعمال، فينكبّ الجميع على مشاهدتها والتصفيق للبطلة الجميلة. في هذا المشهد، الاعتراض الأساس هو على هوية الممثّلة، وهي جنديّة سابقة مثلاً، فهل يتنبّه الحريصون على "فحص الدم" بالوطنيّة للمخاطر التربويّة لذلك؟

ختاماً، هذا ما يُقال، أيضاً، عن الأعمال الإبداعيّة، فإنّ إبداع البشريّة مقدّر، إلّا إذا أصاب روحها خللٌ عميق. ولا يكون الحلّ إلّا في اتّجاهين:
1- دعم بنية تحتيّة تطلق العنان للفنّ والرياضة والإبداع في مجتمعاتنا، وتخصيص موارد حقيقيّة لتعزيزها.
2- التصدّي الحازم لأيّ تسلّل معادٍ في ساحة الإبداع، فلو قُيّض له الانتصار، فلن يبقى هناك لا فنّ ولا إبداع.


(*) أستاذ حوزويّ وجامعيّ.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع