نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تكنولوجيا: "آيباد"..وجيل القفز العنكبوتي

تحقيق: فاطمة شعيتو حلاوي

هي ذاتها الأنامل الصغيرة التي تجرّ القلم بخطوات ثقيلة على الورق، تراها تبرع في الوثب بمختلف الاتجاهات على شاشة إلكترونية ضيّقة المساحة. إنّها المفارقة العجيبة لأطفال العصر الرقمي، القادرين على فعل أمور عدّة في حيّز زمني واحد، حتى باتوا يُعرفون بـ"جيل القفز" أو الـ"Zapping". من التسمّر أمام شاشة التلفاز، فالتمايل شمالاً ويميناً مع مقبضي التحكم الخاصّين بالـ"play station"، فالنقر السريع على لوحة أزرار الحاسوب، والبراعة المشهودة في التحكّم بخيارات الهاتف الذكي عبر اللمس تالياً، وصولاً إلى التصاق العينين بشاشة الـ"آيباد" (ipad) أو الحاسوب اللوحي... مراحلُ يقطعها صغارُ اليوم، راكبين موجة الرقمنة العجولة، بقيادة ربّانٍ بالغٍ قد يعرف وجهة المسير ومآله، وقد لا يعرفهما.

*نافذة رقمية جديدة
تحت عناوين التّسلية والترفيه، التعلّم السهل والسريع، المساواة بالأقران، والمكافأة، أصبح الـ"آيباد" رفيقاً إلكترونياً مُلازماً لأطفال هذا الجيل، يُوضع بين أيديهم الرقيقة قبل اكتمال سنواتهم الثلاث الأولى أحياناً، وبعد تجاوزهم هذه السنّ الصغيرة أحياناً كثيرة. إنّه ببساطةٍ تلك اللوحة الإلكترونية المتعدّدة اللمس، التي فتحت نافذة جديدة على العالم الرقمي، عبر دمج خصائص الحاسوب المحمول والهاتف المحمول، متيحةً لحاملها تصفّح الإنترنت، متابعة البريد الإلكتروني، مشاهدة الفيديو والصور، قراءة الكتب وغوص في عالم الألعاب الإلكترونية... وفي غمار الخيار الأخير غالباً ما يقع الأطفال والأهل معاً في مصيدة جهاز الـ"آيباد".

*هل الـ "آيباد" موضة سلبية؟
وتكثرُ المعلومات المتداولةُ عن إيجابيات وسلبيات الـ"آيباد"، الذي تحوّل اقتناؤه اليوم إلى "موضة" بين الصغار، يرعى أصداءَها البالغون. فبينما يؤكد بعض الدراسات أن لهذا الجهاز دوراً هاماً في تنمية القدرة لدى الأطفال على اكتساب المهارات والتعلّم والتفكير وسرعة البديهة، يحذّر بعضها الآخر من اضطرابات صحيّة ونفسية واجتماعية، قد تنجم عن الاستخدام غير السليم والمُبالغ فيه لهذا الجهاز، كإجهاد العينين وزيادة الوزن والصداع، وشرود الذهن والميل الى الاكتئاب والعزلة، ناهيك عن مخاطر الإدمان الإلكتروني والدخول غير الآمن إلى الشبكة العنكبوتية.
فهل هنالك اليوم حاجة فعلية لأن نضع الـ"آيباد" في متناول أطفالنا؟ وكيف السبيل إلى الاستفادة منه دون رجحان كفّة مساوئه على كفّة حسناته؟
يتّفق الاختصاصيون في مجال التربية والتعليم على أن لكل جيل أدواته ووسائله المعتمدة في اللعب والترفيه من جهة، وفي عملية التعلّم والتعليم من جهة ثانية. ومن ثمّ فإن جهاز الـ"آيباد"، بما يحمله من تطبيقات وبرامج متنوّعة، يمكن أن يُسهّل عملية الدمج بين التسلية والتعلّم لدى الطفل.
في هذا الإطار، يؤكد الاختصاصي التربوي الأستاذ بلال شمعوني أن ليس هنالك من سنّ محددة بشكل علمي ودقيق للسماح بوضع الـ"آيباد" بين يدي الصغار، ولكن بالإمكان تحديد الفترة العمرية المناسبة لذلك بناءً على درجة وعي الطفل ومدى قدرته على التحكم بحواسه، لا سيّما البصر واللمس. وتبقى المسألة نسبيّةً وتتفاوت بين طفلٍ وآخر بعد الدخول إلى المدرسة.

*شجارٌ وغيرة..
"وضعتُ الآيباد بين يديْ ابني جواد (7 سنوات) بهدف التسلية، ولكن سرعان ما تحوّل هذا الجهاز إلى أداة للشِجار مع أخيه هادي الأصغر سناً (4 سنوات)، وصرتُ أخوض معهما ملحمة درامية لنزع هذا الجهاز جانباً، فيبكيان على فراقه كمن فقد عزيزاً له".
هكذا تختصرُ السيدة أمل (33 عاماً) تجربة ولديْها مع الـ"آيباد"، التي كانت بدأت بشكل شبه إيجابي، خاصة لناحية تحصيل الفوائد التعلّمية، غير أن التعلّق الشديد به أدّى إلى تراجع قدرتهما على التواصل الاجتماعي، وصار سبباً لأزماتٍ عنوانُها الغيرة، مع أولاد الجيران والأقارب، بفعل سهولة حمله إلى أي مكان.
ووفق تجربتها، ترى السيدة أمل أن إيجابيات الـ"آيباد" تُلخّص فقط بنسبة 20 بالمئة، إذا لم يُحكم الأهل ضبط آلية وتوقيت استخدامه.

*تنظيم وقوننة من اليوم الأوّل
إذاً، قد ينقلبُ التعاطي اليومي للطفل مع الـ"آيباد" إلى حالة من التعلّق الشديد غير المرغوب فيها لدى الأهل، لا سيّما إذا كانت سبباً للنزاع المستمر بين الإخوة. فكيف السبيل إلى "قوننة" استخدام هذا الجهاز بطريقة تربوية سليمة، دون أن نُشعر الطفل بانتزاع غرض ثمين منه؟
"إن الحيلولة دون تعلّق الطفل بهذا الجهاز تبدأ من اليوم الأول للسماح له باستخدامه"، يؤكد الأستاذ شمعوني، موضحاً أن ذلك يتمّ عبر نظام محدد ومقنّن، من حيث مدّة وأوقات الاستخدام وأهدافه ومضامينه. أمّا إذا خفيت على الأهل أهمية هذه الخطوة، وتحوّل الاستخدام المتكرر إلى التعلّق المُبالغ فيه، فإنّ الحلّ يكون بالحوار وبتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، بحسب عهدٍ يتم التوافق على مضمونه مع الطفل، أو بخلق مساحة انشغالٍ لديه بديلةٍ عن الـ"الآيباد"، كتحفيزه على تنمية مواهبه وممارسة هواياته ونشاطاته المفضّلة.
أمّا عن كيفية تقزيم الأهل غيرة الأطفال، فينصح شمعوني الأهل بتعزيز ثقة هؤلاء الصغار بأنفسهم وجعلهم يفتخرون بقدراتهم وإنجازاتهم.

*الحلّ في البديل
أما السيدة نوال (39 عاماً) فقد وجدت بديلاً عن الـ"آيباد" لولدها محمد (9 سنوات) بجعله ينتسب إلى نادٍ رياضيّ، ما خفّف تدريجياً حدّة "ولعه" به، حتى تمّ استبعاد هذا الجهاز على نحو تام أيام الدراسة. "ولعلّ جزءاً من الفضل يعود لعطلٍ طارئ أصاب بطارية الآيباد، فتعذّرَ إصلاحه"، تقول نوال، معتبرة أنّ الـ"آيباد" يزيد من سرعة البديهة لدى الطفل ويملأ وقت فراغه بألعاب ترفيهية وتعليمية، إلا أنه بات يُستخدم كأداة للمقارنة والمفاضلة والتحدّي بين الأولاد، خاصةً لناحية تحميل أكبر كمّ من الألعاب الإلكترونية.
وتلفت السيدة نوال إلى أنها كانت تلمس لدى محمد توتّراً ملحوظاً وتشتتاً في التركيز ونوعاً من العزلة، إزاء إمضائه ساعات مطوّلة أمام شاشة الـ"آيباد"، مع صعوبةٍ في إقناعه بالاستغناء عنه مؤقتاً، بسبب "عناده الزائد" من جهة، وتعلّقه الشديد به من جهة ثانية.

*حذار الاستهلاك التفاخري
يرى الأستاذ بلال شمعوني أنّ علينا أن لا نسقط أمام بعض العادات التفاخرية في الاستهلاك، بل يجب علينا، كأهل ومربّين، الحذر من الوقوع في شباك الإعلام الاستهلاكي الذي يخلط بين الحاجات الأساسية للحياة اليومية وتلك المغلّفة بعناوين وأساليب جاذبة وربما كاذبة.
وهنا، قد يقول الأهل إنهم لا يريدون حرمان أولادهم من تكنولوجيا عصرهم، ويحاولون في الوقت عينه حمايتهم من مخاطر جهازٍ كالـ"آيباد"، فهل بالإمكان عملياً التوفيق بين الأمرين؟
في الإجابة عن السؤال، يعتبر شمعوني أنه من السهل التوفيق ما بين خياري المنع والسماح من خلال توفير الاستخدام الآمن لـ"الآيباد"، إنْ على صعيد طبيعة ونوع التطبيقات والألعاب التي تُقدّم للطفل عبر هذا الجهاز، أو الوقت المسموح بقضائه أمام شاشته، بما يتلاءم مع الصحتين الجسدية والنفسية - الاجتماعية، فلا نترك الطفل يتسمّر أمام هذه الشاشة لساعاتٍ وساعات، على نحو يهدّد صحته ويقتل وقته، ويسبب له الشرود الذهني ويدفعه إلى حب المحاكاة والتماهي والتقليد الأعمى للآخرين، ويخلق لديه نوعاً من العزلة والتواصل السلبي والعنيف، ويضعف الوازع الديني والأخلاقي عنده.

*رقابة غير مباشرة
وهنا لا بدّ من متابعة الطفل دون ممارسة دور الخفير أو الرقيب المباشر.

وبالإضافة إلى جدولة ساعات استخدام الـ"آيباد"، يُنصح بوضع كلمة سرّ (Password) لهذا الجهاز، حتى يُدرك الطفل أنه من الضروري العودة إلى الأهل عند الرغبة في استخدامه، كما يُوصى باستخدام خاصيّة "قيود الأهل" (Parental controls) المتوفّرة على الجهاز لضبط دخول الطفل إلى برامج وبيانات معيّنة ومنعه من العبث بها (يمكن مراجعة الرابط التالي: http://support.apple.com/kb/ht4213


*"رهجةٌ" قابلة للتقنين
ولكن ماذا عن تجربة الآباء مع جيل الـ"آيباد" هذه المرّة؟ لا يُخفي السيد هادي (35 عاماً) أنه، بالإضافة إلى أهدافٍ تربوية وترفيهية، اشترى جهاز الـ"آيباد" لولده علي (7 سنوات) لأن "المجتمع بات يفرض على الأهل اليوم أموراً مماثلة بفعل المقارنة الحاصلة بين أبناء الجيل الواحد"، لافتاً إلى أهمية بعض الألعاب التعليمية المتوفّرة على هذا الجهاز للأطفال دون الخامسة من العمر، كألعاب تعليم الحروف الأبجدية (Ziad’s Alphabet, ABC Alphabet Flashcards...).
في المقابل، يؤكد السيد هادي أن "الرهجة" التي أضفاها الـ"آيباد" إلى يوميات علي خفتت تدريجياً بفعل عامل الزمن، لا سيّما بعد تحديد أوقات مخصّصة للعب، خارج الأيام الدراسية، ودون إتاحة الدخول غير المُراقب إلى الإنترنت، معتبراً أن الـ"آيباد"، كأي جهاز إلكتروني آخر، له إيجابياتٌ ومساوئ تقتصر مفاعيلها على كيفية استخدامه ومدى قدرة الأهل على "قوننة" وإدارة هذا الاستخدام لدى أطفالهم.

*وفي الصف المدرسي
إذاً، ليس خفيّاً على الأهل أنّه بالإمكان استغلال التقنيات الرقمية الحديثة في حسن سير العملية التربوية والتعليمية، وهو توجّه ينتهجه اليوم عددٌ من الدول، بعضها في العالم العربي، من خلال إدخال الـ"آيباد" إلى الصفوف المدرسية، إذ إنه يسمح بتعديل وتحديث المواد والمعلومات المدرجة في المناهج التعليمية بشكل يومي، ويقلّص تكاليف باهظة تتعلق بإعادة طباعة ملايين النسخ من الكتب والمذكّرات المدرسية، فالـ"آيباد" يُلخّص محتوى الحقيبة المدرسية بكلّ ما تحويه!

وفي هذا المعرض، يؤكد الأستاذ شمعوني أنّ استخدام الأدوات الحديثة في التعليم له أثر هامّ عبر تعزيز العملية التفاعلية، خاصة إذا كانت هذه الأدوات مربوطة ببرامج وتطبيقات وشبكات هادفة. وهنا يأتي دور الأسرة والمدرسة في زرع الوعي لدى الصغار وفي سَنّ الضوابط والقيود والقوانين عند وضع هذه الأجهزة الإلكترونية في متناولهم، مع إمكانية المراقبة المستمرة وغير المباشرة. ويلفت شمعوني إلى قول الإمام علي عليه السلام: "إنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء إلا قبلته"1، حيث إنّ الرعاية والمتابعة والتدخل الملائم تمكّنت من تعزيز الإيجابيات التي تحملها هذه الأدوات لأطفالنا، على صعيد تنمية الجانب المعرفي والاجتماعي وتدريب الحواس، بما يشبع حبّ الاستطلاع والمعرفة لديهم، ويُساهم في توسيع دائرة خيالهم.
ويختم بالقول: "لنحرص على أن تكون عملية تربية الأبناء عملية متكاملة تشمل جميع جوانب الحياة، فينشأ الطفلُ فطناً قويّاً يعرف ويفهم لغة زمانه ومكانه، شامخاً شموخ العلم والمعرفة الواعية والمتطورة بكل عناصرها وأدواتها".

*القفز إلى أعلى
قد تغرقُ أسماعُنا اليوم في سيول من الثناءات والتحذيرات حول وضع أدوات التكنولوجيا الرقمية بين راحات أطفالنا، وقد ننجرفُ في متاهاتِ الحيرة حيال اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها، فجيل "القفز" العنكبوتي يُسجّل اليوم بصماته الخاصة على صفحات المسيرة التربوية والاجتماعية المعاصرة، متسلّحاً بفطنةٍ مشهودة، ومهاراتٍ قلّ نظيرها لدى الأجيال السابقة. وهنا دعوةٌ لأن نجهّز الأرضية الكفيلة باحتضانه، فإذا ما ألقى بحمله الصغير عليها، جعلته يقفزُ بأمانٍ إلى الأعلى، فالأعلى.


1- نهج البلاغة، من وصيته عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع