مقابلة مع سماحة الشيخ محسن قراءتي
حوار: الشيخ نعيم حيدورة
يحتاج المسلم في مثل هذه الأيّام، التي يهلك فيها من هلك وينجو منها من يوفّقه الله تعالى لتقبّل الرحمات الإلهية، يحتاج إلى القرآن الكريم الذي فيه الشفاء من كلّ داء والوقاية في كلّ لأواء والرحمة عند كلّ بلاء، حيث يقول تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَ خَسَاراً﴾ (الإسراء: 82). وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: "فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفّع وماحل مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل.." (1). من هنا كان لنا هذا اللقاء النافع والمثمر مع الباحث والمفسر للقرآن سماحة العلامة الشيخ محسن قراءتي حفظه الله.
* أهمية التفسير الفكرية والاجتماعية
- سماحة الشيخ ما هي برأيكم أهميّة تفسير القرآن الكريم على الصعيدين الفكريّ والاجتماعيّ؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين. يختلف الإنسان عن سائر الموجودات من الناحية الفكرية، فمن جهة الأكل والنوم والحركة والنمو، هو سواء مع الحيوان، أما امتيازه فهو بفكره وبعقله. ومع ذلك فإن عقل الإنسان ناقص بدليل ما يشعر به من ندم، حيث يندم الإنسان كثيراً، لذا ولأن الإنسان ناقص العقل فهو يحتاج إلى الوحي، والله تعالى أنزل القرآن وحياً لنا، فهو اقتداء عقلنا الذي به امتيازنا. والدين الكامل لا بدّ أن ينظر إلى جميع المسائل، وهذا ما نجده في القرآن الكريم. على سبيل المثال، في القرآن يتوجّه الله سبحانه بالخطاب إلى الأطفال ﴿الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾ حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ... ﴾ (النور: 58). وفي آية أخرى يتوجّه بالخطاب إلى المؤمنين آمراً إياهم بقتال أئمّة الكفر، حيث يقول عزّ من قائل: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ﴾ (التوبة: 12).
فالخطاب القرآني يلحظ المسائل الفردية وحتى الجزئية والمسائل العامة المهمّة على صعيد بناء المجتمع الإسلامي والمحافظة على وجوده. كذلك يتعرّض القرآن لمسائل التوحيد، ومنها قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ*وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾ (الغاشية: 17ـ 18). وكذلك يعرض لمسائل التبليغ، حيث يقول عزّ وجلّ: ﴿...وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً*وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً﴾ (مريم: 54). فكونه رسولاً نبيّاً مسألة فرديّة، وأمره لأهله بالصلاة مسألة اجتماعية. وأهميّة تفسير القرآن تكمن في بيانه وإيصاله إلى الناس، وتفسيرُ القرآن بيانُه.
* مقدّمات الاستفادة من القرآن
- ما هي الأسس التي يمكن البناء عليها للاستفادة من القرآن الكريم عن طريق تفسيره؟
الاستفادة من القرآن تحتاج إلى مقدّمات علميّة، وعلى الأقلّ ينبغي لمن يسلك في طريق هذه المعرفة أن يدرس عشر سنوات في الحوزة العلميّة، وأن يعرف لغة القرآن، أي العربيّة، فيعرف أدبيّاتها، كما لا بدّ أن يكون مطلعاً على كتب التفسير، وله دراية بالروايات. وبعد الممارسة يصل إلى مرحلة الاستنتاج أو تفسير القرآن بالقرآن، فمثلاً يقول تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... ﴾ (الكهف: 46) ثمّ يقول: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ... ﴾ (الأعراف: 31)، فيكون معنى الآية الثانية أنّه إذا أردتم الذهاب إلى المسجد فخذوا أبناءكم معكم واجعلوا في أيديكم المال. وقد يفسر القرآن تارة أخرى بالروايات، مثلاً في قوله تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24). فعن زيد الشحّام: "قلت للإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام: ما طعامه؟ قال: علمه الذي يأخذه، عمّن يأخذه. فالمقصود بالطعام هنا الشأن المعنوي وليس المادي". وقد يفسر القرآن باللغة، يقول تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا﴾ (النساء: 35) ولم يقل وإن خفتم الاختلاف بينهما، وهذه بلاغة قرآنية وتعبير حقيقي عن الحالة الواقعية المذكورة، فالانشقاق تستخدم للشيء الواحد مثل ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ (القمر: 1) فالقمر شيء واحد وقد انشق. والزوج والزوجة يصبحان وبرباط الزواج شيئاً واحداً ولذا ينشق الزواج بحصول الطلاق، ولو قال اختلافاً بينهما لكان هناك شيئان وليس شيئاً واحداً. وقوله تعالى: ﴿وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ (المائدة: 6) يدّل على التبعيض في المسح على الرأس فلو قال "وامسحوا رؤوسكم" لوجب مسح الرأس كلّه. ويمكن الاستفادة في التفسير من شأن النزول، فقوله تعالى: ﴿فلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ (الإسراء: 33) لو أخذناه كما هو دون مراعاة لشأن النزول فقد تعني أنّه لا بأس بقتل واحد أو اثنين إلا أنّ الإسراف في ذلك ممنوع، أمّا لو راعينا شأن نزول هذه الآية، فنجد أنّه كان هناك حادثة معيّنة تتعلّق بحالة قتل حصلت بين قبيلتين، فبالنظر إلى هذه الحالة لا يسرف في القتل، لا أنّ كلّ واحد يستطيع أن يقتل لكن دون إسراف. والنهي عن الإسراف يشير إلى واقع كان سائداً في الجاهليّة، واليوم أيضاً يمكن مشاهدة نماذج له، فحين يُقتل فرد من قبيلة معيّنة، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.
* هداية من الله تعالى
- سماحة الشيخ كيف لنا أن نفهم القرآن؟ وما المعين على ذلك؟
فهم القرآن والعمل به هداية من الله تعالى. وينبغي لمن أراد هذا الفهم، بعد طلب العون منه سبحانه، أن يتوجّه إلى العلماء المجدّين في هذا المجال والذين أنفقوا سنين طويلة في طلب المعارف القرآنيّة. فالقرآن فيه محكم ومتشابه، ولا بُدّ للعوام من الناس أن يرجعوا إلى كتب التفاسير الوازنة علمياً والموثوقة عند أهل العلم. أما إذا رجع شبابنا إلى القرآن وحده بدون عالم فإنّهم قد ينحرفون. يدّعي بعض الناس أنّ هذا العصر هو عصر التفسير الموضوعي دون التفسير الترتيبي، ما رأيكم في هذا القول؟ أنا لا أعتقد بهذا الكلام، وهذا العصر ليس عصر التفسير الموضوعي، وهذا شعار؛ فالتفسير قد يكون ترتيبياً وقد يكون موضوعياً بحسب الظروف. والتفسير الموضوعي يأتي بعد التفسير الترتيبي الذي هو عماد البناء التفسيري، وبعد أن ينهي المفسّر هذا التفسير يبدأ بالموضوعات القرآنيّة.
* الحكمة والموعظة الحسنة
- سماحة الشيخ قراءتي، ما هو المنهج الذي اتّبعه القرآن في الدعوة إلى الله تعالى؟
﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (الأنعام: 152). هذا هو أسلوب ومنهج القرآن في الدعوة. فالحكمة والموعظة موجودتان في القرآن كما الجدال بالتي هي أحسن، كقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ*قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس: 78 79). فالجواب كان بالتي هي أحسن.
* القرآن والعلم
- كيف يمكن الاستفادة من القرآن الكريم على الصعيد العلميّ، أعني في العلوم الطبيعيّة؟ هل لسماحتكم أن تذكروا لنا بعض النماذج؟
القرآن كتاب الهداية، وقد أشار إلى بعض الأمور بشكل رمزي، فمثلاً قوله تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ﴾ (التين: 1) فلماذا قرن التين بالزيتون ولم يقرنه بالرمّان وهكذا؟ فهناك ربما إفادة علميّة، كما أنّ التين ذُكر مرّة واحدة والزيتون سبع مرّات (ستّ مرّات باللفظ ومرّة بالإشارة)، وفي هذا رسالة علميّة أيضاً، حيث أجريت دراسة منذ سنتين في إحدى البلاد الغربيّة أكّدت أنّ أكل حبّة تين واحدة وسبع حبّات زيتون له آثار مفيدة للصحّة. وقال تعالى: ﴿هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَاب﴾ (ص: 42) نراه سبحانه لم يقل "شراب بارد" بل مغتسل بارد حيث إنّ فيه فائدة للجسم. وفي مثل هذه الأيام فنحن نتحادث عبر الهواتف الخليويّة مع من هم في أقاصي البلاد وأصبح بالإمكان أن نرى صورهم، ولكن في القرآن نجد أن الله سبحانه يخبرنا عن قصّة سليمان عليه السلام ومسألة عرش بلقيس ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ... ﴾ (النمل: 40). فذاك العرش في ذلك الوقت يُؤتى به من اليمن إلى فلسطين بطرفة عين، لا أن تُرى صورته فقط، ولعلّ الأيّام تُظهر لنا أنّ العلم يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة فينقل الأشياء من مكان إلى مكان بطرفة عين.
* قراءة وتدبّر القرآن
- ما هو دور الأسلوب في الهداية؟ وما هي وظيفتنا تجاه القرآن الكريم؟
قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ (القصص: 56). وعن الإمام الرضا عليه السلام: "إنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا" (2). وظيفتنا قراءة القرآن وتدبّره والعمل به أو بيانه للشباب. وكنصيحةٍ أخيرة أقول: للأسف القرآن كان مهجوراً عندنا، وهناك أربع أوصاف ذامّة في القرآن ﴿قُلُوبُكُمْ...كَالْحِجَارَةِ﴾ (البقرة: 74) ﴿كَمَثَلِ الْكَلْبِ﴾ (الأعراف: 176) ﴿كمثل الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا﴾ (الجمعة:5) ﴿أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ﴾ (الأعراف: 179). ولكنّ هناك آية أشدّ ذماً من هذه الكلمات، وهي في قوله تعالى لأهل الكتاب ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ﴾. وكما نعلم فالحمار والأنعام والكلب والحجارة أشياء وأولئك ليسوا على شيء، لماذا وحتى متى ولأيّ شيء، يتابع تعالى فيقول: ﴿حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ... ﴾ (المائدة: 68)؟ فوظيفتنا أن نُقيمَ القرآن حتّى لا نكون مثل هؤلاء ومن الهاجرين للقرآن والتاركين له فيشكونا رسول الله صلى الله عليه وآله يوم القيامة إلى ربّ العزّة سبحانه وتعالى حيث يقول: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾ (الفرقان: 30). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(1) الكافي، الكليني، ج 2، ص 599.
(2) عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 275.