الشيخ علي ذو علم
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الدنيا تَغُرُّ وتَضُرُّ وتَمُرُّ" (1) إن الارتباط الصحيح مع أمير المؤمنين عليه السلام إنما يكون من خلال الرجوع إلى الرؤية الكونية التي بيّنها الإمام عليه السلام. ومع أنّ الوصول إلى قمّة المعرفة والإدراك الإلهي الذي كان يتمتّع به الإمام عليه السلام أمر محال، إلا أنه يمكن التقدم بخطواتٍ هامّةٍ في هذه المسيرة. ومن أهمّ الموضوعات والمحاور التي تحدَّث بها الإمام عليه السلام عن عالم الوجود هو رؤيته الخاصة للدنيا، فقد لا نجد في نهج البلاغة أية مسألة ذُكرت بالذم والتقبيح كما الدنيا، حيث وصلنا عن الإمام علي عليه السلام في هذا المجال خطبٌ متعددةٌ ومئاتُ العبارات. ومن جملة ذلك عبارة قليلة الكلمات عظيمة المعنى: "الدنيا تغرُّ وتضرُّ وتمرُّ".
* الدنيا فرصة إلهية
الدنيا تغرُّ الإنسان، باعتبار أنَّ الآمال الدنيوية والخيالات البعيدة التي توصل إلى الشهوات، والحصول على الثروة والمال، والوصول إلى السلطة والمناصب الدنيوية... تجعل الدنيا تبدو جميلةً من البعيد، ولكن الاقتراب منها يبيّن مدى امتزاجها بالخيالات والأوهام الخاطئة. طبعاً أولئك الذين لم يجدوا آمالهم في إطار هذه الأفكار الضيقة، واعتبروا الدنيا مقدّمةً لحياة الآخرة لن يقعوا فريسة غرور الدنيا. إنّ من يقع في فخّ الغرور هو الذي لم يطّلع على حقائق ووقائع الدنيا الأساس، والذي يظنّ أنّ "المقدمة" هي "النتيجة" ويتصوّر أنَّ "الظاهر" هو "الباطن".
وعليه، فإنَّ الدنيا تغرُّ من يطلبها، ولكنها لن تغرَّ من يعتبرها مؤقتة، ومن يعدّها ممرّاً إلى عالم آخر. لن تغرَّ الذين ينظرون إليها على أنها فرصة يكتسبها الإنسان للعمل من أجل رضا اللَّه تعالى والوصول إلى الكمال الحقيقي. ولكن ما العمل إذا كان أغلب الناس يعتبر الحياة الدنيا هي كل شيء والتوجه إليها هو جلُّ ما يملك؟ لا بد هنا من الوقوع في غرورها، لأنَّ هؤلاء لم يعلموا أنّ الدنيا محل اختبار وامتحان، وأنَّها مكان التحصيل وصناعة الذات ومكان الصعوبات والمشكلات. لم يدركوا أنَّ الدنيا ليست هدفاً نهائياً، وليست مرحلة تنمو فيها ثمار جهد وسعي الإنسان، وليست الساحة التي يؤمّن الإنسان فيها آماله واحتياجاته. لقد حصروا حياتهم في الدنيا، فلم يكن نصيبهم منها إلا الغرور.
* الخاسرون في الدنيا
بالإضافة إلى أنَّ الدنيا تغرّ، يشير الإمام عليه السلام إلى أنّها تلحق الضرر بالإنسان أيضاً. فالخاسرون والمتضررون هم الذين غرّتهم الدنيا، والذين صرفوا جلَّ رأسمالهم في سبيل الحصول عليها وغفلوا عن الآخرة والمستقبل الحتمي الذي ينتظرهم. هؤلاء صرفوا قوَّتهم وعمرهم في سبيل هذه الدنيا العابرة، فوقعوا في الخطأ إذ اعتبروها هدفهم النهائي. ختاماً، إنَّ الدنيا التي تلحق الضرر بالإنسان المغرور، تمضي وتنصرم، حتى أنها لا تتوقف لتجُيبَه أو لتعتذر إليه. فهل يستطيع الذين ينتقلون إلى عالم الآخرة بعد أن صرفوا حياتهم وراء الظواهر الدنيوية الزائلة أن يحاكموا الدنيا لما ألحقته بهم من ضرر؟ أبداً لن يحصل هذا؛ لأنَّ الدنيا تمضي وتنقضي بعد أن تغرَّ وتضرّ. التقصير هنا يقع على عاتق المغرورين، فلا يلوموا أحداً سوى أنفسهم، لأنهم كانوا يشاهدون انقضاء الأيام بأمّ أعينهم، وكانوا يشاهدون موت المقرّبين منهم، ويشاركون في دفنهم، والأهمّ من هذا أنَّ دعوة الوحي والعقل كانت حاضرةً أمامهم بأنَّ الدنيا ماضيةٌ فانية، لذا لا يجب على الإنسان أن يتعلق قلبه بما هو فانٍ، بل عليه أن يفكرّ بالحياة الأبدية، وأن يبدأ الإعداد لها من هذه الدنيا.
* العمل لأجل الآخرة
يصف الإمام علي عليه السلام الدنيا بأنَّها مكانٌ للعمل وللسعي، ولا طريق آخر أمامنا سوى الاستفادة من نعمة عمرنا والامكانيات المتوفرة في هذا العالم من أجل الحصول على السعادة الأبدية. لا شك أنه يجب العيش في عالم الدنيا، ويجب إعمارها، ولكن ليس من أجل الدنيا، بل لأجل الحصول على الكمال الأبدي وضمان الآخرة. ولا علاقة لهذا الأمر بالاستفادة من النعم الطبيعية، وبالعمل وبالسعي لتحسين أوضاع الحياة، لا، بل لو اقترنت هذه الأمور بالنية الإلهية لأضحت بذاتها طلباً للآخرة. إنَّ الذي يوجّه الإمام عليه السلام اللّوم إليه هو العمل لأجل الدنيا وليس العمل في الدنيا من أجل الآخرة، لأنَّ العمل من أجل الآخرة هو عين الصواب ويوجب الثواب، ولا سبيل آخر للإنسان من أجل الوصول إلى السمو والسعادة إلا من خلاله.
(1) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، حكمة رقم 415، ص 96.