تحقيق: ليندا زراقط
أقوياء بإرادتهم، أقوياء في إنجازاتهم، هم نماذج تتألّق رغم محنة البدن أو الحواس. تومض بالصبرِ، وتنبض بالعطاء، محوّلة الجرح إلى طاقة وإبداع... إنهم جرحى حطّموا القيود وصنعوا الإبداع. في هذا التحقيق سنسلط الضوء على نخبة من الجرحى، استطاعوا بالكفاح والإصرار والمثابرة أن يحققوا جزءاً من طموحهم ويتطلعون إلى تحقيق المزيد، فلم تمنعهم ظروف الإعاقة من ذلك، بل كانت الوقود الحقيقي لهم والدافع القوي وراء تحديهم ليثبتوا أن لديهم أرواحاً لا تعترف باليأس...
* تجاوزت إعاقتي بفمي
عجزت يداه عن الرسم.. فرسم بفمه. واحد وعشرون عاماً هو عمر الشاب إبراهيم الروماني الذي شاء القدر أن يصاب بشلل رباعي لكنه تخطى الإعاقة الجسدية شبه التامة ليكتب بفمه وعقله قصة نجاح وليصبح التحدّي هدفه للمضيّ قدماً في حياته.
يقول إبراهيم وهو يجلس على كرسي متحرك وبجانبه شقيقته ووالدته:
تلقّيت بوادر التشجيع والتحفيز من قبل إحدى الأخوات التي تعمل في مؤسسة الجرحى لممارسة الرسم عبر فمي. أعجبتني الفكرة، ووجدت في نفسي رغبة شخصية للاكتشاف. إن أقسى شعور أحسستُ به هو عندما لم أستطع أن أمسك بالقلم والريشة للرسم بيدي، فبادرت إلى أن يكون فمي الوسيلة التي بها أتجاوز إعاقتي، وأحترف الرسم بها وتكون رسولاً لمشاعري. فكانت البداية صعبة ولكن مع الوقت والممارسة نجحت. ويضيف: إن إعاقتي سببت لي في البدء أزمة نفسية لكني استطعت تجاوزها والتفوق عليها بإرادتي بعدما صممت على مجابهة مصاعب الحياة وتحقيق حلمي بالرسم. بالتحدي والإيمان ينتصر الإنسان على إعاقته ويحقق ما لم يستطع الأصحاء تحقيقه. أيضاً إن تعلق إبراهيم الشديد بالكمبيوتر وبرامجه دفعه إلى تحدي إعاقته ومحاولة تجاوزها على قدر ما يستطيع، مبتدئاً باستخدام لوحة مفاتيح الكمبيوتر بخشبة يضعها في فمه مروراً بفأرة يحركها بذقنه ويتواصل عبر الإنترنت مع أصدقائه وأشخاص آخرين. يؤكد إبراهيم طموحه لإقامة معرض كبير ووضع الكثير من اللوحات فيه، مع الاستمرار في ممارسة هوايته، رغم كل العوائق والظروف المحيطة به.
* كَسَر حاجز الظلام بامتياز
لم يكن يدري بأن صاروخاً سيخطف بصره في إحدى عملياته الجهادية في الجنوب اللبناني عام 1995، إلا أن مهدي ياسين رسم صورة صمود مدادها العطاء والثبات متعالياً على جراح نالت من بصره لكنها لم تنل من عزيمته في مواصلة الجهاد ومقارعة المحتل. فمهدي الجريح الكفيف الذي لم تعجزه إعاقته عن تحقيق ما يريد ولم تقف حائلاً أمامه تابع رحلة حياته ليبدع في الصناعة الحرفية، حيث يجد لذة كبيرة أثناء مزاولته لها.. يحمل مهدي طموحاً كبيراً جداً. يتصور الأشياء كما هي وينقل ما تخزنه ذاكرته وما يراه بنور البصيرة إلى أنامله فيصنع أشياء يحتاجها الناس. عمله عبارة عن أحاسيس تتسرب من أنامله لتتخذ أشكالاً صُنعت من القش والخشب.
يبدو كأي حرفي لبناني إلا أن عمله يصبح أكثر من رائع حين يأخذ الناظر في الاعتبار أنه فاقد للبصر يجيد استخدام الكمبيوتر ويستطيع التواصل مع الآخرين عبر هذه الوسيلة التكنولوجية بشكل أفضل بكثير من المبصرين. فهو يجسّد من خلال عمله الجمال الذي يراه قلبه متحدياً كل الصعاب من حوله تاركاً رسالة واضحة إلى العدو الصهيوني مفادها: الحياة نملكها بعزمنا. فالنور خلف العتمة والإيمان بالله والإصرار على التحدي للنجاح في الحياة يولدان طاقة رهيبة لدى الإنسان حتى لو أثخنته الجراح. يبدأ الحاج مهدي حديثه مبتسماً: شغفي بالعلم دفعني لمتابعة الدراسة، فسعيت جاهداً لأكمل تعلّمي حيث كان ذلك همي الأول، فحصلت على ليسانس فلسفة وإلهيات ومن ثم اتجهت إلى العمل الحرفي، لأن باعتقادي، العمل مسؤولية.فالإنسان لديه أسرة يعمل على تربيتها. وأيضاً أُعطي دروساً في دورات ثقافية وكمبيوتر للمكفوفين من الجرحى الهدف منها التنمية الروحية لديهم. وإن الإنسان طالما هو حي فإنه قادر على العطاء. وأعتقد أننا حققنا الهدف الذي نصبو إليه. وعن الدافع الذي كان وراء قيامه بجميع هذه الأمور قال: هو تغيير نظرة المجتمع لنا بأننا أناس عاجزون، ولأنني وباقي الجرحى نرفض أن نعيش على هامش المجتمع ولدينا الكثير من المواهب والقدرات، فنحن منطلقون في الحياة، ولم توقفنا الإعاقة يوماً. صحيح أننا فقدنا بعض حواسنا أو أعضائنا، لكننا لم نفقد القدرة على الإبداع والتميّز، فالله أخذ منا شيئاً، ومنحنا الكثير من القدرات التي لو أحسنّا استغلالها بالتدريب والممارسة لغيّرنا مسار حياتنا وحياة الكثيرين.
* لا يأس رغم الجراح
ربما تشل الإعاقة حياة بعض الناس لكن بعضهم الآخر يحاول تجاوزها، فإيمان الأطرش أصيبت بشلل نصفي إثر إصابتها برصاصة على شرفة منزلها خلال عام 1984، وكان عمرها آنذاك ثمانية عشر ربيعاً وهي على أعتاب المرحلة الثانوية. مصاعب الحياة وحب العمل وإثبات الذات هي ما دفع إيمان إلى البحث عن وسيلة عمل لذلك اختارت مهنة الحرف والأشغال اليدوية، ونجحت في ذلك وأصبحت فنانة في عملها داخل بيت الجريح. فشعورها بالثقة بالنفس وبحثها عن الإبداع جعلاها تتحرك وكأنها بلا إعاقة. وفي الوقت الحاضر تتعلم قيادة السيارات وتقضي أوقات فراغها بالاطلاع على أحدث التطورات في المجتمع والعالم. لا يأس مع الحياة مقولة رددتها إيمان على مسامعنا لا بل طبّقتها على أرض الواقع وأثبتت بإصرارها على مواجهة ظروف الإعاقة أن الإنسان قادر على تخطي كل العقبات مهما كانت كبيرة.
تقول إيمان: "بالتوكل على الله واجهت الألم والمصاعب. لقد أخذت مفتاح اليأس وألقيته في البحر. في البداية كنت دائماً حبيسة السرير من جرّاء الجرح وكانت الأسئلة تنهمر علي: ألا تشعرين بالملل؟ فكان الجواب لا، فرفيقي الكتاب وهو خير جليس. كانت إصابتي الدافع للاستمرارية في الحياة. وكنت مصرة على أن أكمل حياتي مثل أي إنسان طبيعي. ولم تكن الإعاقة عائقاً أمامي في أي شيء، فإني استطعت أن أكمل دراستي رغم كل الظروف وحصلت على الامتياز الفني في تصميم الأزياء وهناك تعلمت الرسم ومن ثم درست اللغة الإنجليزية، وانضممت إلى عدة دورات في الكمبيوتر، وأطمح لدراسة اللغة الفارسية والدراسة الحوزوية، إذا سمح لي الوقت". تضيف إيمان: "أريد أن أوجّه رسالة للجرحى والمعوقين أياً كانت إعاقتهم طالما لديهم عقل يعمل وهي أن لا يدفنوا أنفسهم وهم أحياء". وتوجه نداء للمجتمع بأن ينظر للجريح أو المعوق على أنه شخص لا يختلف عن غيره إلا بوضعه الذي وُضع فيه إجبارياً، وأن لا يقيّموه بشكله بل بقدراته. وتشبّه مؤسسة الجرحى بـ "المنارة" التي تنير درب الإنسان الذي أضل طريقه وتوصله إلى الهدف المنشود.
* بيت الجريح ومواكبة عمل الجرحى
وكان لـ "بقية الله" لقاء مع مدير بيت الجريح الحاج بلال الصبوري الذي أوضح أنه: تكمن أهمية بيت الجريح بمواكبة عمل الجرحى وإيصال رسالتهم عبر الإبداع والإنتاج والاندماج داخل المجتمع، حيث أنشئ معهد بيت الجريح التقني والحرفي التراثي ليكون واحة لقاء يردها الجرحى لممارسة هواياتهم الحرفية، وليتزودوا ببعض المعارف والتقنيات العلمية والعملية ولتكون لهم عوناً وسنداً في ميادين العمل والإنتاج. وقد عملت إدارته على إعداد وتنفيذ العديد من الأنشطة التدريبية المهنية والحرفية للجرحى والمعوّقين وعائلاتهم وفي مجالات مختلفة وإقامة عدة معارض ثابتة لإبراز أعمالهم. وتهدف مؤسسة الجرحى إلى النهوض بمستوى الجريح في جميع النواحي الصحية والثقافية والاجتماعية والمعنوية والاقتصادية وتأهيل الجريح وإعداده بالشكل الذي يعطيه فرصة الحياة المناسبة داخل المجتمع وتدريب وتأهيل الجرحى والمعوقين لتمكينهم من ممارسة أنشطة الحياة اليومية وإيجاد فرص العمل المناسبة لهم. ويضيف: لدى المؤسسة فريق متخصص ومتكامل لتأهيل الجرحى من الناحية النفسية والثقافية والتربوية والاجتماعية حيث يقومون بدراسة حالة كل جريح حسب الإعاقة الموجودة لديه ويوجهونه إلى العمل الذي يستطيع أن يقوم به. ولدينا عدة نماذج من الجرحى الذين أبدعوا: منهم من أكمل دراسته الأكاديمية، ومنهم من برع في الأعمال الحرفية. فالمؤسسة ترعاهم وتواكبهم على الصعيد المادي والعملي، فمن يكمل دراسته وتحصيله العلمي تتكفل بأقساطه، ومن يهوَ الأعمال الحرفية تخلق وتجد له ساحة العمل وتؤمن له جميع المواد والمستلزمات التي يحتاجها كتأمين وسائل النقل، مثلاً. والذي لا يستطيع أن ينتقل من منزله تؤمن له أساتذة في المنزل، فهي تهتم بكل التفاصيل وتذلل الصعوبات والمعوّقات الموجودة وتذوّبها حتى يصبح الجريح معطاءً وله دوره في الحياة. وأكد الحاج ذوالفقار أن جريح المقاومة لم يقف عند حد معين من العطاء، وأن الإعاقة التي سببتها له الحرب لم تكن حجر عثرة في طريقه بل حولها إلى عملية إنتاجية وإبداعية وأثبت جدارته في الميادين العلمية والعملية. ومن هنا نقول: إن الجريح يريد إيصال رسالة الجرح إلى المجتمع والتي هي العطاء والإبداع.