إسراء مهدي / العراق
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "المجاهد من جاهد نفسه
في طاعة الله عزّ وجل" (1). وقال الإمام علي علهيه السلام : "فضل الجهاد جهاد النفس
عن الهوى، وفطامها عن لذات الدنيا"(2)، وأيضاً: "جاهد نفسك على طاعة الله مجاهدة
العدو عدوّه، وغالبها مغالبة الضدّ ضدّه، فإن أقوى الناس من قوي على نفسه" (3).
إن
المجاهدة ثمرة من ثمرات الإيمان، وهي رياضة نفسية لتعويد النفس على الطاعة واجتناب
المعصية، وهي وسيلة مهمة من وسائل الارتقاء والسموّ والتكامل، بتغليب نوازع الخير
على نوازع الشر داخل النفس. وقد أكّد الإسلام على ذلك، وحثّ عليه من أجل ارتقاء
الإنسان إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات التكاملية في سيره نحو تزكية النفس
وإصلاحها، للحصول على مرضاة الله تعالى. ولذا اعتبر الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله جهاد النفس أكبر من جهاد العدو. والمجاهدة الحقيقية هي الممارسات الروحية
والمعنوية التي تنسجم مع ثوابت الشريعة التي أرسى أركانها القرآن الكريم ورسول الله
صلى الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرون عليهم السلام، وما عداها فهو بدعة.
* معنى التطرف في مجاهدة النفس
في مجاهدة النفس يجب التّمسك بالمنهج الذي وضعه الإسلام، والاقتداء بالرسول صلى
الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام والأولياء، لأن الابتداع والابتكار غالباً ما
يؤديان إلى عكس الغاية، ويتركان أضراراً مادية أو روحية على الجسد والروح، وقد
يؤديان إلى التِّيه والضلال واستحواذ الشيطان، لذا أمر الإسلام بعدم تجاوز
الموضوعية في طرق المجاهدة، ففي وصية الإمام علي عليه السلام لابنه الحسن عليه
السلام: "أي بني إنّ أحب ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي، تقوى الله والاقتصار على ما
افترض عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك... ثم ردهم آخر ذلك، إلى الأخذ
بما عرفوا والإمساك عمّا لم يكلّفوا" (4). وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله عن
التشديد على النفس قائلاً: "لا تشددوا على أنفسكم فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم
على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والدّيرات" (5). ومجاهدة النفس
بالطرق المتطرفة كانت من أعمال المتصوّفة وبعض المتأثرين بهم، وهذه الطرق شذوذ عن
الطبيعة البشرية.
* مجاهدة الحياء الساذج
إن المحظور في الروايات من الحياء هو الهوى المخالف للطاعة، لذا فان مخالفة النفس
يمكن أن تنصب على ذلك. قال الإمام علي عليه السلام: "نزّه عن كل دنية نفسك، وابذل
في المكارم جهدك، تخلص من المآثم وتحرز المكارم" (6). وينبغي لمن يتحلّى بهذه
الظاهرة أن يحوّل حياءه إلى أمر إيجابي مباحاً كان أم واجباً. والمباح من الحياء،
هو الحياء من الأمور المخالفة للمروءة، كالحياء من الأكل ماشياً، والحياء من الضحك
بصوت مرتفع في بعض الأماكن، والحياء من لبس بعض الثياب التي لا يتقبلها العرف،
والحياء من مجالسة المنحرفين. فهذا اللون من الحياء ظاهرة ممدوحة يمكن للإنسان أن
يمارسها. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "الحياء لباس سابغ، وحجاب مانع،
وستر من المساوئ واقٍ، وحليف للدين، وموجب للمحبة، وعين كالئة تذود عن الفساد،
وتنهى عن الفحشاء" (7). وبسبب آثاره التربوية الإيجابية، أكدّ عليه أمير المؤمنين
عليه السلام في أقواله: "الحياء يصدّ عن فعل القبيح" (8). "ثمرة الحياء
العفّة" (9). "من كساه الحياء ثوبه خفي عن الناس عيبه" (10).
وقال الإمام جعفر
الصادق عليه السلام: "فلولا الحياء لم يقْرَ ضيف، ولم يُوفَ بالعداة، ولم تُقْضَ
الحوائج، ولم يُتَحرَّ الجميل، ولم يُتَنَكَّب القبيح في شيء من الأشياء"(11).
والحياء الإيجابي هو الحياء من الله تعالى، والنفس، والمجتمع، والقانون... قال
الإمام موسى الكاظم عليه السلام: "استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من الناس
في علانيتكم" (12). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "غاية الأدب أن يستحي الإنسان
من نفسه" (13). فالحياء من الله تعالى ومن النفس يردع الإنسان عن الانحراف الخفي
وغير المعلن، والحياء من المجتمع والقانون يردعه عن الانحراف العلني والمخفي معاً
خوفاً من انكشافه أمام الملأ. والحياء له دوران: الأول الصد عن العمل القبيح
والشائن، والثاني التخلق بالأخلاق الحسنة والصالحة وخصوصاً في العلاقات الاجتماعية،
وبه ترعى حقوق الآخرين.
* مجاهدة حبّ المال
روي أنّه عالج بعضُهم حبّ المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر، إذ خاف من
تفريقه على الناس من الرياء (14). حبّ المال باعتدال وتوازن من الأمور المباحة، وهو
ينسجم مع الفطرة الإنسانية. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾
(المائدة: 87). وعن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "إنا
لَنُحِبُّ الدنيا، فقال لي: تصنع بها ماذا؟، قلت: أتزوج منها وأحجّ وأنفق على عيالي
وأنيل إخواني وأتصدق، فقال لي: ليس هذا من الدنيا؛ هذا من الآخرة" (15). فالمال
ضرورة من ضرورات الاستمرار في الحياة، وله دور في إنجاز الأعمال والبناء والتعمير،
وهو أمر مرغوب فيه إن كان حبّه باعتدال وتوازن، والمعالجة الصحيحة لحبّ المال تتم
عن طريق محاربة آثاره السلبية كالاكتناز والبخل والشحّ والطمع، وأخذه بالباطل
وإنفاقه بالباطل وجعله مقياساً للتفاضل، ويتمّ ذلك بالإنفاق كما أمر الله تعالى:
﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ..
﴾ (البقرة: 177).
ويقول الإمام
الصادق عليه السلام: "إنما أعطاكم الله هذه الفضول من
الأموال لتوجهوها حيث وجهها الله عزّ وجل، ولم يعطكموها لتكنزوها" (16). فالمجاهدة
في إخراج حبّ المال من النفس هي في الاكتفاء بالحاجات الضرورية وإنفاق الفائض
علىالمستضعفين والمعوزين، وأعلى درجات الإنفاق هو الإنفاق من الشيء المحبوب للنفس
كما قال تعالى:
﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى
تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾
(آل عمران: 92).
(1) مسند أحمد، أحمد بن حنبل، ج 6، ص 21.
(2) عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص 122.
(3) م. ن، ص 222.
(4) تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني: ص 48.
(5) كنز العمال، المتقي الهندي، ج 3، ص 35.
(6) تصنيف غرر الحكم، الآمدي، ص 240.
(7) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، 272.
(8) عيون الحكم والمواعظ، ص 28.
(9) م. ن، ص 209.
(10) م. ن، ص 45.
(11) بحار الأنوار، محمد باقر المجلسي، ج 2، ص 25.
(12) تحف العقول، م. س، ص 293.
(13) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 20، ص 265.
(14) المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 17.
(15) بحار الأنوار، م. س، ج 73، ص 106.
(16) الكافي، الكليني، ج 4، ص 32.