مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

في رحاب بقية الله: خصائص السَّفارة الحقّة


الشَّيْخ معين دقيق


لا شكّ أَنَّ السفارة - التي هي وساطة بين إمام العصر وشيعته - تُعتبر من المناصب العظيمة التي لا ينالها إِلَّا ذو حظٍ عظيم. ونظراً لعظم هذا المنصب الَّذِي يشغله من تقلّد زمامها فقد اشرأبّت إليها أعناق الكثيرين قديماً وحديثاً، وكثرت الدعاوى الكاذبة لها، وذلك استدعى أنْ يقع الاهتمام في خصائص السفارة الحقّة؛ ليكون الناس والموالون في كُلّ عصر ومصر على بيّنةٍ من أمرهم، فلا تنطلي عليهم حيل أرباب الدعاوي والأكاذيب.


* إثبات السفارة الحقّة
أهمُّ خصوصيةٍ تتمتّع بها السفارة الحقّة هي أَنَّها تُثْبت ارتباطها بالناحية المقدسة عن طريقٍ صحيحٍ ومعتبر، والأُمور التي يمكن أنْ تقع طريقاً لإثبات السفارة هي:

الطريق الأوّل: الشُّهرة والشياع من دون تكذيبٍ معتدٍّ به.
وهذا طريقٌ عقلائيٌّ صحيح، حيث إنَّ المجتمعات البشرية قديماً وحديثاً اتَّخذته وسيلةً لتعيين الوكلاء والمندوبين وما شابه ذلك. والشريعة الإسلامية تعاملت معه على أساس أَنَّه وسيلة إثبات صحيحة مثل كثيرٍ من الموارد، كإثبات الاجتهاد والعدالة والخبرة وما شاكلها. وتتوقّف مصداقية هذا الطريق على عدم وجود دليل يكذّبه، ويضعّف من قيمته، وهذا يكون في الموارد التالية:

1- أنْ يُشاع بين الناس سفارة شخصٍ بعد ادّعائه لها، ولكن كانت هذه الدعوى في ظرفٍ زمانيٍّ أو مكانيٍّ لا يُتوقّع صدور التعيين من قبل المعصوم فيه، كما يغلب ذلك في زماننا.

2- أنْ تصدر الدعوى من قبل مدّعيها، ويشتهر ذلك بين الناس، إِلا أَنَّه يكون على خلافها شهرة أُخرى تكذبها، وهذا إِنَّما يحصل عادةً في موارد السفارات الكاذبة التي تكون مقتدرة، إمّا لكون السُّلطة الحاكمة مؤيّدة لها، فتبذل المال والقدرة على نشرها بين ضعاف القلوب، وإمّا لكون المدّعي للسفارة نفسه هو صاحب السلطة والجاه.

3- التكذيب من قبل السّفير المسلّم سفارته، وهذا قد يكون بطريقةٍ مباشرةٍ، وقد يكون عن طريق الإحراج للمدَّعي أمام مريديه. ونذكر لذلك نموذجاً حصل في زمن السفير أبي جعفر محمد بن عثمان العمري، فقد نقل الشيخ الطوسي ما لفظه: "حكى أبو غالب الزراري، قال: حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن يحيى المعاذي، قال: كان رجل من أصحابنا قد انضوى إلى أبي طاهر ابن بلال بعد ما وقعت الفرقة، ثمّ إنّه رجع عن ذلك وصار في جملتنا، فسألناه عن السبب، قال: كنت عند أبي طاهر يوماً وعنده أخوه أبو الطيب وابن حرز وجماعة من أصحابه، إذ دخل الغلام، فقال: أبو جعفر العمري على الباب. ففزعت الجماعة لذلك وأنكرته للحال التي كانت جرت وقال يدخل، فدخل أبو جعفر رضي الله عنه، فقام له أبو طاهر والجماعة، وجلس في صدر المجلس وجلس أبو طاهر كالجالس بين يديه، فأمهلهم إلى أن سكتوا.

ثم قال: يا أبا طاهر (نشدتك الله) أو نشدتك بالله، ألم يأمرك صاحب الزمان بحمل ما عندك من المال إلي؟ فقال: اللهم نعم. فنهض أبو جعفر رضي الله عنه منصرفاً، ووقعت على القوم سكتة، فلما تجلّت عنهم قال له أخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان؟ فقال أبو طاهر: أدخلني أبو جعفر رضي الله عنه إلى بعض دوره فأشرف عليّ من علوّ داره، فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه. فقال له أبو الطيب: ومن أين علمت أنّه صاحب الزمان عجل الله فرجه؟ قال: قد وقع عليّ من الهيبة له ودخلني من الرعب منه ما علمت أنّه صاحب الزمان عجل الله فرجه، فكان هذا سبب انقطاعي عنه"(1).

الطريق الثاني: النّصُّ الصحيح من قبل المعصوم عجل الله فرجه وهذا هو أكثر الطُّرق شياعاً، وبه ثبتت سفارة السُّفراء الأربعة في عصر الغيبة الصُّغرى. ونكتفي بذكر نموذج واحدٍ على ذلك:
جاء "عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ... فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ مَشْهُورٍ قَالُوا جَمِيعاً: اجْتَمَعْنَا إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ نَسْأَلُهُ عَنِ الْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَفِي مَجْلِسِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، فَقَامَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْعَمْرِيُّ، فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ رَسُولِ الله أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ أَمْرٍ أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ يَا عُثْمَانُ، فَقَامَ مُغْضَباً لِيَخْرُجَ، فَقَالَ: لَا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ. فَلَمْ يَخْرُجْ مِنَّا أَحَدٌ إِلَى أَنْ‏ كَانَ بَعْدَ سَاعَةٍ فَصَاحَ بِعُثْمَانَ، فَقَامَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ بِمَا جِئْتُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا ابْنَ رَسُولِ الله، قَالَ: جِئْتُمْ تَسْأَلُونِّي عَنِ الْحُجَّةِ مِنْ بَعْدِي. قَالُوا: نَعَمْ، فَإِذَا غُلَامٌ كَأَنَّهُ قِطَعُ قَمَرٍ أَشْبَهُ النَّاسِ بِأَبِي مُحَمَّدٍ، فَقَالَ: هَذَا إِمَامُكُمْ مِنْ بَعْدِي وَخَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ أَطِيعُوهُ وَلَا تَتَفَرَّقُوا مِنْ بَعْدِي فَتَهْلِكُوا فِي‏ أَدْيَانِكُمْ، أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ يَوْمِكُمْ هَذَا حَتَّى يَتِمَّ لَهُ عُمُرٌ، فَاقْبَلُوا مِنْ عُثْمَانَ مَا يَقُولُهُ وَانْتَهُوا إِلَى أَمْرِهِ وَاقْبَلُوا قَوْلَهُ، فَهُوَ خَلِيفَةُ إِمَامِكُمْ وَالْأَمْرُ إِلَيْهِ(2). وإنّما قيّدنا هذا الطريق بكونه صحيحاً لأجل أَنَّه قد يضع بعض الرُّواة المعروفين بالكذب والوضع بعض النُّصوص لصالحهم أو لصالح غيرهم مِمّن يرجع إليهم نفع تصدّيه لهذا المنصب العظيم، فلا يكون هذا الطريق حينئذٍ مفيداً ونافعاً لإثبات السفارة.

الطريق الثالث: ظهور الكرامات والأُمور الخارقة للعادة من قبل مدّعي السّفارة.
وهذا الطّريق قد يكون سيفاً ذا حدّين، فإنّه على الرغم من كونه طريقاً صحيحاً لإثبات السفارة، كيف والذي هو أعلى مقاماً من السّفارة كالنّبوة والإمامة يثبت بالمعجزة التي هي متحدة مع الكرامة مضموناً، غاية الأمر المعجزة اختصّ إطلاقها عند علماء الكلام بما يتحقّق على يدي مدّعي النّبوة، بينما الكرامة هي ما يصدر عمّا دون هذا المقام(3). أو أَنَّ المعجزة أضيق دائرةً من الكرامة؛ لأنّ المعجزة يشترط فيها أن تكون في مقام التحدي لمن يكذبه، وليس كذلك الكرامة(4). فبعد التتبُّع في النُّصوص يخلص الباحث إِلَى أَنَّ الكرامة تتصف بجملة من الخصائص منها:
- إنَّ الكرامة عادةً تكون معتضدة بطريق آخر، كالنصّ من قبل المعصوم عليه السلام.
- إنَّها عادة لا تكون لأجل إثبات السفارة لعموم الناس، بل إِنَّ السفارة بعد ثبوتها قد يتّفق أنْ ينكرها البعض، فاللطف الإلهي - حينئذ - يقتضي دعم ذلك السفير بكرامةٍ أو أكثر لتثبيته. ومن ذلك ما رواه الشَّيْخ الطوسي: من أَنَّ محمد بن الفضل الموصلي كان رجلاً شيعياً غير أنّه ينكر وكالة أبي القاسم ابن روح رضي الله عنه، ويقول إِنَّ هذه الأموال تخرج في غير حقوقها. فلم يثبّته على عقيدته بسفارته إِلَّا بعد أنْ ظهر له كرامة على يده، بعد أن كتب له مسائل على ورقةٍ بقلم من دون مداد، فأجاب عنها السّفير مطابقاً لما كتبه من أسئلة(5).


(1) الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 400.
(2) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 51، ص 346.
(3) الأربعون حديثاً، سليمان بن عبد الله البحراني، ص 413.
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج 6، ص 424.
(5) الغيبة، الشيخ الطوسي، ص 315.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع