العلاقات الإنسانيَّة هي قوام حياة هذا الإنسان، فالإنسان
وطبقاً لما يذكره الفلاسفة له من تعريف: اجتماعيٌ بالطبع، أي لا يمكنه أن يَحيا إلا
في ظلِّ مجتمع يُحيط به، وبيئةٍ اجتماعيَّة تكتنفه بما لديها من إمكانات. ومهما
تعدَّدت الأسباب التي ذُكرت لبيان حاجة الإنسان إلى المجتمع وإلى الحياة
الاجتماعيَّة، إلا أنَّ من الواضح أنَّ ذلك يشكِّل فطرةً إنسانيَّة ثابتةً في تكوين
الإنسان وخلْقته. ويمرُّ الإنسان في حياته بأنماط من هذه العلاقات تتراوح بين مدٍّ
وجزر، استقرارٍ واضطراب، هدوءٍ وفوضى.
وكلَّما اتَّجهت العلاقات الإنسانيَّة ناحية
الهدوء والسكينة والاستقرار والطمأنينة كلَّما تمكَّن الإنسان من أن يسعى في طريق
الكمال الإنسانيّ ليصل إلى أرفع الدرجات. والدين الذي أنزله الله عزَّ وجل لهداية
هذا الإنسان لم يُغفِل إطلاقاً هذه الحاجة الإنسانيَّة الثابتة، كما لم يُغفِل
المدى الذي قد تبلغه من اضطراب، وما يُمكن أن يعصف به من أمور، ولذا جاء هذا الدين
ليعالج هذه العلاقات فيضع لها حدوداً وقيوداً وآداباً تضمن لو سار عليها الإنسان
بقاءها في مأمن من المخاطر المحدِقَة بها. إنَّ الركن الأساسيّ في العلاج الذي طرحه
الإسلام لهذه العلاقات الإنسانيَّة يتمثَّل في مفهوم الإلفة، فالمؤمن هو الذي يألف
الآخرين ويألفونه، ومفهوم الإلفة هذا لا يختصُّ بقوم دون غيرهم ولا بجماعةٍ دون
آخرين. ولعظمة هذا المفهوم وعجْزِ الإنسان عن القيام به نسبه الله عزَّ وجل إلى فعل
نفسه، فجعل الإلفة بين المؤمنين فعلاً إلهياً لا يُمكن حتَّى للرسول أن يقوم به ولو
أنفق ما في الأرض جميعاً. وكعادة الكثير من المفاهيم الإنسانيَّة لا تتحقَّق الإلفة
المتبادلة بين الناس بقرارٍ يصدر عن جهةٍ عليا، لأنَّها أمر يرتبط بطريقة تفكير
الإنسان من جهة، وبطبيعة هذا الإنسان من جهة أخرى. والإسلام اعتنى بكلا الأمرين،
فقد دعا الناس للإيمان بالله عزَّ وجل وجعل الإيمان بما يحويه من فكرٍ عاملاً
موحِّداً للنفوس يؤدَّي ما لا يُمكن أن يؤدّيه بذل ما في الأرض جميعاً في سبيل
تحقيقه، وكلَّما اقترب الإنسان من الإيمان كلَّما زادت الإلفة بينه وبين الناس.
كما اعتنى الإسلام بطبيعة هذا الإنسان من خلال حثِّه على أن يعيش حالة الإلفة مع
الناس، وبما أتاحه له من طرق عمليَّة تفتح له باب الإلفة، فحثَّه على العفو
والإحسان وصلة الرحم وغيرها الكثير ممَّا يؤدِّي بهذه العلاقات الإنسانيَّة إلى أن
تتَّجه ناحية الثبات والاستقرار. ومن هذه الفرص فرصة شهر رمضان الذي جعله الله عزَّ
وجل باباً للإنسان في كلِّ سنةٍ ليحرص على أن يعيش حال الإلفة مع الناس من خلال
مشاركتهم في كلِّ ما يحويه هذا الشهر من مظاهرَ تُعيد الإنسان إلى أخيه الإنسان
وتجعله يعيش معه حياةً واحدةً لا تفاضل فيها. ولكن ما يُحدِق بهذا الشهر من خطرٍ هو
أن يتحوَّل إلى عبء عندما تكثر المظاهر الاجتماعيَّة البعيدة عن الدين، وعن آداب
هذا الشهر الكريم. وهذه الآداب، وإن لم تكن فرضاً لازماً في الشرع، ولكنَّها باب
للوصول إلى الأغراض المنشودة من الصيام والقيام في هذا الشهر. ومن هنا يَكتسب هذا
الشهر أهميَّته المعنويَّة فيما له من دورٍ في رقيّ هذه الروح. إلا أنَّ ما يقع على
عاتق الإنسان هو أن يستغنم فرصة هذا الشهر الكريم ليحاول تدارك ما فاته خلال عامه
أو ما وقع فيه من اضطراب، فيُصلح ذلك حيث القلوب تصبح أقرب إلى التقوى.