مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الحاج رضوان دمه هويته


مقابلة مع والدة الحاج رضوان
حوار: عدي الموسوي


هي ليست فقط والدة الشهيد القائد الحاج عماد مغنيّة رضي الله عنه، بل هي أيضاً والدة الشهداء، التي ربّت أبناءها ليكونوا للناس وللمجتمع ولقضايا المستضعفين والمظلومين. الحاجّة أم عماد، التقيناها في حوار تناول شذرات من ذكرياتها عن القائد الشهيد، النشأة والعوامل التربوية والشخصية التي أسست شخصيته. ولكن البداية كانت في حديثها عن النشأة الأولى، حيث عرّفتنا إلى الحضن الأسري الأوّل للقائد الشهيد:


أسرتنا كانت أسرة متوسطة الحال، ربُّ هذه الأسرة كان صاحب مطعم للفول، وكان من الكادحين في عمله، يستيقظ باكراً في الخامسة صباحاً ليتوجّه إلى المطعم كي يطبخ ويحضر الفول والحمّص، في حين كان يتأخر في العودة مساءً. وكان الهمُّ الأساس لي ولزوجي هو في تربية الأبناء ضمن أجواء صحية ومتديّنة، وبأن يتابعوا تحصيلهم العلمي على أعلى المستويات. وهنا، لا يخفى عليكم أنه في ذلك الوقت (أواسط الستينات وصولاً إلى بداية السبعينات) كانت أجواء الالتزام الديني متراجعة وفي أسوا حالاتها، وهذا ما ضاعف من إحساسنا بصعوبة المسؤولية التربوية الملقاة على عاتقنا، حيث كان من أكثر الأمور معاناة في ذلك الوقت يتمثّل في ابتعاد الناشئة بشكل عام عن أي التزام بالفروض والواجبات الدينية، وهو ما شكّل هاجساً وهمّاً أساسياً في وضعنا. في هذا الجو العام ولد الحاج عماد، وكان الابن الأكبر بين إخوته.

* نحن نعرف أن الابن الأكبر إمّا أن يلقى من والديه اهتماماً تربوياً أكثر من باقي إخوته، وأحياناً أخرى - وبسبب الاعتماد الباكر عليه - ، فإنّه يحرم من هذا الاهتمام التربوي، أين كان الحاج عماد رضي الله عنه بين هذين الاحتمالين؟

زوجي وأنا حاولنا قدر المستطاع المساواة بين الجميع في الاهتمام التربوي، لكنّ الحاج عماد بطبيعته الشخصيّة، فضلاً عن كونه البكر، فإنّه قد تحمّل المسؤولية باكراً، حتى أنني أذكر أنّه مرَّ سريعاً بمرحلة اللعب واللهو الطفولي، ليس لأننا ربّيناه على هذا الأساس، بل لطبيعته الشخصية، التي كانت تنظر إلى الأمور بجدّية وبحس عالٍ من المسؤولية. فمثلاً، كان يشعر كثيراً مع تعب والده في السعي لتوفير أفضل معيشة لعائلته، بل كثيراً ما كان يتساءل عن ضرورة تحمّلنا كامل هذه الأعباء المادية في سبيل تربيته هو وإخوته.

وربّما هذا ما جعله يبادر إلى مساعدة والده باكراً في المطعم. طبعاً، بقية إخوته الذكور ساهموا بعدما كبروا في ذلك، حيث كانوا يتوجّهون للمطعم بعد إنهاء واجباتهم المدرسيّة، ولكنّ عماداً تحمّل العبء أكثر منهم، ربّما لأن العادة هي أنْ يتكّل الوالد على ابنه البكر، فضلاً عن أنه قد وجده والده أهلاً لتحمّل المسؤولية. وهكذا، - وبعدما بلغ الحاج عماد الحادية عشرة من عمره -، لم يعد يَدَعُ والده يستيقظ للعمل باكراً، فكان يذهب عوضاً عنه لتحضير متطلّبات المطعم الصباحيّة من طبخ للفول والحمص، حتى يحين موعد مدرسته، فيذهب مع إخوته لينتظروا باص المدرسة. وقد ظلَّ على هذه الحال حتى بلغ الثالثة عشرة، حيث اضطررنا لإقفال المطعم مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. وهنا، تغيّرت حياتنا جذرياً، فبسبب إقفال المطعم تراجع وضعنا المادي، وعشنا ظروفاً صعبة اقتصادية وأمنية خلال ما عرف بحرب السنتين بين العامين 1975و1977، فاضطررنا إلى أن ننـزح –كحال الكثيرين- إلى القرى، فسكنّا نحن في قريتنا طير دبّا. وهناك، ومن لا شيء تقريباً، تمكّنا من بناء منزلنا، حيث شارك الحاج عماد في بنائه. وفي ليلتنا الأولى فيه، بادر عماد مع أخوته إلى تأدية ركعتي شكر لله تعالى.

* نحن نعرف أنّ هذه الفترة كانت شديدة الأهميّة في بناء شخصيّة الحاج عماد رضي الله عنه، ما هي أبرز المحطّات فيها؟
يجب هنا أنْ أمهّد لمسألة مهمة، وهي أننا قبل بداية الحرب الأهلية، وبالتحديد في العام 1974 كنّا قد فتحنا منزلنا لتعقد فيه جلسات ثقافية ودينية، وذلك ضمن نشاط جمعية مدرسة الإمام الحسين عليه السلام، وهو نشاط كان يستقطب مختلف الفئات العمريّة. من هنا، كان عماد قد عاش معنا تجربة العمل الثقافي الإسلامي، فكان طبيعياً أنْ اعتمد عليه فيما سعيت إليه من تأسيس لعمل ثقافي إسلامي، في جو من تراجع للالتزام الديني، حيث كانت التيّارات الفكرية الإلحادية والمعادية للتديُّن تبسط سطوتها على أغلب قرى وبلدات الجنوب ومنها قريتنا طير دبّا. ولا أخفيك بأنَّ من الأسباب الرئيسيّة التي دفعتني لهذه المسألة - فضلاً عن مسألة الواجب الشرعي، هو - خوفي على أبنائي من أن ينجرفوا في أجواء عدم الالتزام الديني. لذلك، اتفقت مع عماد على القيام بنوع من نشاط التوعية الدينية للفتيان الذين هم في سنّه، فصار يعمل على جمعهم، وتعليمهم الفروض والواجبات الدينيّة من صلاة وصيام وغيرها، ثم صار يحثّهم على ارتياد مسجد القرية بعدما نجح في كسب ثقة القيّمين على المسجد من مسنّي القرية، والذين كانوا في ذلك الوقت ينظرون بعين الريبة والشك إلى الفتية على اعتبارهم بعيدين عن التديّن، ولا يقصدون المسجد إلاّ للعبث أو اللهو.  وفي أحد الأيّام، شكا لي عماد من حالة مبنى المسجد، وتمنّى لو نتمكّن من طلاء جدرانه على الأقل، حيث إنّه تعلّم أصول الطلاء خلال إحدى عطله المدرسيّة السابقة، ولكنني بيّنت له صعوبة الموضوع بسبب الوضع الاقتصادي الصعب الذي كنّا نعيشه حينها. فتفهّم الأمر، ولكنّه طلب منّي إيقاظه باكراً صباح اليوم التالي لأمر مهم. وهكذا توجّه ليعمل في حقول القرية وبساتينها في مجال تعشيبها وتنظيفها، وكان الوقت خلال شهر رمضان، حيث عاد من يوم عمله الأوّل فأودع عندي خمس ليرات، وأعطاني بعض الخضار لأستخدمها في صناعة الفتّوش. وبرغم معاناته من سوء أخلاق صاحب البستان، ظلَّ في عمله حتى تمكّن من تجميع المبلغ اللازم لشراء الطلاء، ثم قام بجمع رفاقه في القرية، ليقوموا مجتمعين بطلاء المسجد. وهنا، أشير إلى أنّ عدداً من هؤلاء الرفاق هم ممن أكملوا دروبهم في الحياة، وهم اليوم من العاملين في الساحة الإيمانية والجهاديّة.

* ماذا كان موقفكم مع بداية المرحلة العسكرية من حياة الحاج عماد رضي الله عنه؟
لا أخفيك بأننا - والده وأنا - قد تخوّفنا من الأمر كثيراً، وقد أمضينا العديد من النقاشات في الموضوع، غير أنّ الحاج عماد أقنعنا بأنه مدرك لما يفعل، وبأنّ الهدف أمامه واضح ومحدّد، مؤكّداً بأنّه لم يؤمن بمعارك الزواريب الضيقة والحروب الداخليّة، وأنّه لن ينخرط فيها في يوم ما، فوجْهته كانت محددة: مواجهة العدو الأوّل: الكيان الصهيوني.. وهنا، أعود إلى مرحلة السكن مرحلة الإقامة في الجنوب، حيث إنّها قد أسهمت في تشكيل هذا الوضوح في الهدف وفي الرؤية؛ فهناك شاهد عن قرب همجية الكيان الصهيوني وعدوانيته من جهة، واحتك واطّلع على الحركات والتنظيمات المقاومة لإسرائيل، حيث كانت له الكثير من الملاحظات والمؤاخذات على السلوكيات السلبية لهذه التنظيمات، وعلى تجاوزاتها وأخطائها مع الناس، وهو ما جعله –باكراً- يطرح التساؤلات ويشكّك في مدى جديّة هذه التنظيمات ومدى قدرتها على تحقيق أهدافها التحررية، وهو ما جعله يسعى منذ ذلك الوقت إلى محاولة صياغة رؤية مقاومة جديدة ومغايرة لما كان سائداً، وحتى وهو ضمن إطار هذه التنظيمات اختطَّ مع رفاقه المتديّنين طريقاً خاصاً بهم. وهنا، أشير إلى أنّ إغراء السلاح الذي يبهر الشباب في مثل هذه السنّ لم يجعله يهمل دراسته الدينيّة والعصريّة، فضلاً عن اهتمامه بالمطالعات الثقافية المختلفة، هذا دون أنْ ننسى مواظبته على حضور مجالس أبي عبد الله الحسين عليه السلام، والتي كان لها مكانة خاصة في نفسه في ذلك الوقت ولاحقاً، فضلاً عن حرصه على مجالسة العلماء. وفي هذا المورد، أذكر الدور المهم الذي لعبه – في ذلك الوقت - سماحة السيد محمّد حسين فضل الله، حيث كان من المبادرين إلى تركيز الاهتمام على توعية الجيل الشاب وتثقيفه.

* في تلك المرحلة، لم يكن الحاج عماد يتجاوز العشرين من العمر، ونحن نعرف أنّ صاحب هذه السنّ، غالباً ما ينبهر بالقوة وبالسلطة التي يمنحها السلاح. كيف تفاعل الحاج عماد رضي الله عنه وقتها مع السلاح وسطوته؟

لم يكن السلاح بالنسبة للحاج عماد سوى قوة تستخدم وتسخّر في سبيل هدف سامٍ ومحدّد. لذلك لم يمكّن هذه القوة من أن تتحكّم به، بل هو من تحّكم بها واستغلّها. وقد ظل طوال حياته ضمن هذه القناعة: القوة والسلاح والإمكانات هي لخدمة الهدف وليس العكس، وهي قناعة تولّدت نتيجة لبُعد النظر الذي تمتّع به، والذي كان يحرّك قراراته المختلفة.


* بعد سنوات من هذه المرحلة، بدأت مرحلة جديدة في الحياة الجهادية، ما اضطرّت الحاج عماد إلى أنْ يغيب لفترات طويلة عنكم. ألم يكن لديكم الخوف من أن يعرض له ما قد يحرفه ويخضعه للإغراءات الدنيويّة؟

طبعاً، الخوف يبقى موجوداً، فنحن في النهاية بشر، ولكنني كنت ومازلت أعتقد أنّ ما يحرّك الإنسان ويحدّد مستقبله هو ركيزته التربوية الأساسيّة، إذا صلحت هذه الركيزة صلح الإنسان وتراجعت إمكانيّة انحرافه، ولكن تبقى المتابعة ضروريّة وأساسية، فالإنسان يجب - دائماً - أنْ يتذكّر ويُذكَّر، وبرغم أنني كنت مؤمنة بأنّ ركيزة الحاج عماد كانت صالحة وراسخة، فإنّي كنت حين ألتقيه أبادر إلى السؤال والاطمئنان، فيجيبني باقتضاب: "اطمّنوا، ولا تخافوا". وهنا، أُلْفِتُ إلى قاعدة أو مسألة تربويّة مهمة آمنت بها، ومازلت، ألا وهي: "إذا أردت أن تربّي ولدك، فربّي رفيقه". فأنا كنت مطمئنة إلى وضع ولدي من خلال اطمئناني إلى صحبته ورفاقه، فأغلبهم عرفتهم منذ فتوّتهم، ومن أسباب فتح منزلي لاستقالبهم هي لأطمئنّ على أولادي ولأعرف من يصادقون ويصاحبون، من خلال مواكبتي ومراقبتي لهم. هذه مسألة أساسية في التربية.

* عادة ما يقول الأهل بأنّهم يربّون أولادهم كي يكونوا عوناً لهم، ماذا عنكم وقد كبر الحاج عماد منذ صغره ليكون خادماً ومعينا لقضية أكبر؟
أنا هنا أسأل: كم من الآباء قد ربّوا أبناءهم لأجل إعانتهم، وما وجدوهم بقربهم ساعة احتاجوهم، برغم وجودهم في هذه الحياة الدنيا؟ أمّا على صعيدي الشخصي، فإنني اليوم أجد أبنائي، أجدهم أكثر من السابق، أجدهم من خلال العزة والكرامة التي نعيشها، والمجتمع الذي يقدّرنا ويحضننا. فليس المهم أنْ يكون ولدي إلى جانبي، بل إلى جانب كل الناس وأنا حتماً سأكون واحدة من هؤلاء الناس. هل كنت تتوقعين للحاج عماد أنْ ينال هذا النجاح في مجال عمله الجهادي ضد العدو الصهيوني: مقاوماً، وقائداً ورمزاً؟ لا، لم أكن أتوقّع ذلك بالضبط، حتى خلال حياته، وبرغم أننا كنّا نعرف إجمالاً المكانة والمسؤوليات التي كان أو يمكن أنْ يضطلع بها، إلاّ أنّه لم يكن يخبرني، ولم ندرك جسامة هذه المسؤوليّات إلاّ لاحقاً، فلم أكن أشعر بعبئه الكبير، حتى عندما كنت ألتقيه. فساعة كنت أقول له موصية: انتبه لنفسك، كان يكتفي بالقول: أنا منتبه لنفسي، توكّلوا على الله. نعم، كنت أتوقّع شهادته في كل وقت، ومنذ زمن بعيد. وهنا، أحبّ أنْ أشير إلى أنّ الحياة تحمل في طيّاتها الكثير من المتاعب والمصاعب والعقبات، والحاج عماد واجه الكثير الكثير منها، وقد كان يدرك أنّه سيواجهها، فمَنْ تكبر مسؤوليّاته يكبر همّه، وتكبر المشكلات التي تواجهه وتكثر، ولكنه كان يواجه هذه الصعوبات، ويعمل جاهداً على حلّها، فلا سبيل أمامه سوى ذلك، وإلاّ فلن يكون أهلاً للمسؤولية ولا لإكمال طريقه فيها. هكذا نجح الحاج عماد، فختم طريقه بالشهادة والرضوان.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع