سماحة السيد حسن نصر الله
عندما نتحدث عن الشهادة والشهداء، لا نتحدث لمجرد أن نقدم
نظريات، أو أفكاراً، أو مفاهيم للترف الفكري، أو للزيادة في المعلومات، وإنما نتحدث
عن الشهادة في ساحة مملوءة بالجهاد ومفعمة بالشهادة.
* من هو الشهيد؟
عندما نتحدث عن الشهادة والشهداء، سنحاول أن نصحح بعض المفاهيم حول هذا الموضوع.
بادئ ذي بدء، كلنا نؤمن وكلنا نعتقد، المسلمون وأهل الكتاب والمؤمنون والملحدون،
بأن جميع البشر في هذا العالم منذ أن خلق الله آدم عليه السلام إلى قيام الساعة
ميتون، كل امرئ سيموت، ولا نقاش هنا أكان مؤمناً أو كافراً، مسلماً أو غير مسلم،
الجميع سيموت، هذا حكم إلهي مبرم
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾
(آل عمران: 185). حتى أحب الخلق إلى الله، محمد صلى الله عليه وآله
يخاطبه الله تعالى
﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون﴾
(الزمر: 30) إذاً، فكلٌّ منا ميت، كل الذين سبقونا ماتوا والذين سيلحقون بنا
سيموتون. لكن، ليس كل موت شهادة، الشهادة هي نوع خاص من الموت، الشهادة هي:
القتل في سبيل الله، فليس كل ميت شهيداً، وأيضاً ليس كل مقتول شهيداً. بل المقتول
في سبيل الله هو الشهيد. وعندما نتحدث عن سبيل الله، نعني من يقتل في طريق الله، في
الطريق الذي رسمه الله لنا وأمرنا أن نسير فيه؛ فسبيل الله، يعني سبيل الناس، سبيل
عيال الله، سبيل المستضعفين، سبيل الكرامة، سبيل العزة، سبيل الدفاع عن الأعراض
والأموال والمقدسات، سبيل الدفاع عن الدين وعن القيم الإنسانية، هذا هو الطريق؛ فمن
يقتل في هذا الطريق، فهو الشهيد.
من يقتل في مواجهة أَذِنَ فيها الله ورسوله، أي في
مواجهة مشروعة، في معركة مشروعة، فهو الشهيد. إذا رجعنا قليلاً إلى بعض الآيات
القرآنية، لأن الآيات القرآنية التي تناولت هذا الموضوع كثيرة؛ القرآن عندما يتحدث
عن الشهداء يأتي على ذكر هذين الوصفين: القتل، وفي سبيل الله
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
(البقرة: 154)،
﴿َلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
(آل عمران: 169)،
﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ﴾
(محمد: 4 5). وفي آيات أخرى:
﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ
سَيِّئَاتِهِمْ﴾
(آل عمران: 195)،
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾
(التوبة: 111). أي يَقتُلون في سبيل الله ويُقتَلون في سبيل الله.
* الدافع إلى الاستشهاد
نتساءل هنا: ما الذي يجعل هؤلاء الأشخاص شهداء؟ لماذا كان الحسين عليه السلام في
كربلاء؟ لماذا كان معه هناك 72 رجلاً في مقابل الآلاف ضده؟ هذا في التاريخ، أما في
الواقع الحاضر، فلماذا يذهب الشباب للعمل في المقاومة؟ لماذا يركب أحدهم سيارة
مفخخة أو يحيط نفسه بالمتفجرات ويقتحم مواقع العدو وقوافله ليفجر نفسه؟ طبعاً،
هذا السؤال مطروح في مجتمعنا، لكن الإجابة عنه ليست صعبة، وفهم الإجابة ليس صعباً
أيضاً؛ نأتي هنا إلى هؤلاء الشهداء وحركتهم باتجاه الشهادة، لنجد أن المسألة ترتبط
بالدرجة الأولى بإيمانهم ومعرفتهم؛ أي أن هؤلاء يعرفون أن هناك دنيا وهناك آخرة،
ويعرفون أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الأبدية الأزلية والخالدة، ويعرفون أن هذه
الدنيا فانية، زائفة، جيفة، ويعرفون أن كل نفس ذائقة الموت. لأن الذي لا يعرف هذه
الحقائق لا يمكن أن يمشي في هذا الطريق. هذا الإنسان الذي يحمل هذه المعرفة
وهذا الإيمان وهذا اليقين، يأتيه الإسلام، وخصوصاً في مدرسة أهل البيت عليهم السلام
ليقول له: إذا كان لا بد من الموت، فلماذا لا نموت قتلاً في سبيل الله.
انظروا، أمير المؤمنين عليه السلام ماذا يقول أيها الناس: "إن الموت طالب حثيث لا
يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يقتل مات، إن
أفضل الموت القتل"(1). ثم يحدثنا عن نفسه فيقول: "والذي نفس علي بن أبي طالب بيده،
لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على الفراش"(2). إذاً، عندما نكون أمام
حقيقة أنه لا بد من الموت، فأفضل الموت هو القتل في سبيل الله. وفي بعض
الأحاديث: "أفضل الموت، القتل في سبيل الله"(3)، "أكرم الموت القتل في سبيل الله"(4).
وأئمتنا عليهم السلام دفعونا في هذا الاتجاه. عندما نستمع إلى الحسين عليه السلام
يخاطب الناس على امتداد الطريق إلى كربلاء وفي كربلاء نعرف أن المشكلة بالتحديد، أن
الناس يخافون الموت ويحبون الدنيا. كان الحسين عليه السلام يقول: "الناس عبيد
الدنيا، والدين لَعْقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم"(5) ما داموا يعيشون
وأوضاعهم طيبة ولم يمسهم أحد بسوء أو يمس عائلاتهم وبيوتهم فهم متدينون، أما عندما
يتطلب الموقف منهم أن يضحوا بالمال أو بالولد أو بالنفس في سبيل الله، فإنك تجدهم
قد عادوا إلى ارتباطهم بالدنيا وسقطوا في الامتحان لأنهم "عبيد الدنيا، والدين لعق
على ألسنتهم". وهؤلاء يخاطبهم الحسين عليه السلام فيقول: "ما الموت إلا قنطرة"
لماذا نخاف من الموت؟ فما هو إلا باب أو جسر نعبر من خلاله من دار إلى دار، من حياة
إلى حياة، من عالم إلى عالم، ومن أي دار وحياة وعالم، إلى أي دار وحياة وعالم؟! من
دار "في حلالها حساب وفي حرامها عقاب"(6) كما يقول علي عليه السلام، من دار هي دار
بلاء واختبار وافتتان وبؤس وجوع وحروب وتنافس، من دار في جوار اللئام والقتلة
والمجرمين ومرتكبي المجازر، وهذه حال الدنيا إلى قيام الساعة، إلى دار في جوار
الله والأنبياء والرسل والأئمة والصالحين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، إلى دار يحصل
فيها الإنسان على كل ما يحبه ويتمناه، إلى دار السلام والخلود والأمن والطمأنينة
وجوار المولى عزَّ وجلَّ.
فإذا كان الموت هكذا، قنطرة، جسراً أو باباً نخرج عبره من حياة إلى حياة، أنفتحه؟
لماذا نخشى هذا الموت ونخافه؟! بل بالعكس أئمتنا عليهم السلام يعلموننا أن علينا أن
نقبل عليه ونحبه وننتظره ونسعى إليه، لأننا إن عشنا أكثر قد نمتحن أو نبتلى أكثر،
وقد نواجه المزيد من المخاطر التي قد تهدد آخرتنا وعاقبتنا. لو جاء شخص أو
أشخاص صادقون وقالوا لنا ونحن جميعاً من محبي الحجة عجل الله فرجه ـ: خلف هذا الباب
في هذا المكان يقف الحجة عجل الله فرجه ، فمن يريد لقاءه فليذهب ويفتح الباب ويمضي
إليه، ألا نترك كلنا أماكننا ونهجم على الباب لنفتحه ونذهب إلى المكان الثاني، لأن
خلف الباب من نحب وننتظر ونشتاق إليه، بعد مئات من السنين!
الله تعالى، رسول
الله صلى الله عليه وآله، أئمة أهل البيت عليهم السلام يقولون: خلف هذا الباب الذي
اسمه الموت جنات عرضها السماوات والأرض، خلف هذا الباب: لقاء الله، ومحمد بن عبد
الله صلى الله عليه وآله، وعلي بن أبي طالب عليه السلام، وفاطمة بنت محمد عليها
السلام، والحسن والحسين عليه السلام والأنبياء والرسل عليهم السلام والشهداء
والمجاهدون والأحبة على مدى التاريخ. خلف هذا الباب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا
خطر على قلب بشر، أنخاف هذا الباب ونخشاه؟! بالعكس، فإذا كنا نملك هذا الإيمان وهذا
اليقين، فيجب أن نندفع بقوة نحوه، نبحث عنه في الليالي وفي كل نهار، في كل موقع
وعند كل مفترق طرق، نفتش عن هذا الباب ونفتحه حتى ننتقل من دار إلى دار كما انتقل
الحسين عليه السلام. الحسين هنا يعلمنا أكثر من هذا، يعلمنا كيف يصبح الموت حباً
ويصبح التعلق بالآخرة شوقاً، وكيف تصبح الشهادة هي الطريق إلى تحقق هذا الحب
والوصول إلى نهاية هذا الشوق. الحسين نفسه يقول: "إني لا أرى الموت إلا
السعادة"، هذه مدرسة الحسين عليه السلام: لا يرى الموت موتاً، لا يراه فناءً أو
حزناً أو ألماً؛ "إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برماً"(7).
وفي مكان آخر: "خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة"(8). أي ما
معناه: هذه سنة إلهية حاكمة. يعني الحسين عليه السلام ذاهب إلى كربلاء، إلى الموت،
لكن بأي روح يذهب؟ وبأي نفس يذهب؟ يقول عليه السلام: "ما أولهني إلى أسلافي أي ما
هو أعظم من الشوق اشتياق يعقوب إلى يوسف"(9). ونحن نعرف مدى عظمة اشتياق يعقوب إلى
يوسف عليه السلام، وهو الذي بكى يوسف عليه السلام حتى ابيضت عيناه. فالحسين عليه
السلام يذهب إلى كربلاء بهذا الشوق، بهذا الحب والوله.
إذاً، في ثقافة
الشهادة والاستشهاد عندنا والشهادة هي نوع خاص من الموت؛ أي الموت قتلاً في سبيل
الله يصبح الموت بالنسبة إلينا شيئاً نرغبه ونفتش عنه ولا نخافه أو نخشاه كما يخافه
أو يخشاه الناس. في لبنان لسنا بحاجة لنتكلم عن التاريخ، ألا يحدثنا العدو عن
الاستشهاديين من المجاهدين، كيف اقتحموا قلاع العدو والابتسامة تملأ وجوههم! العدو
حدثنا عن هذا، وأتى الأجانب ليسألونا كيف يقتحم المجاهد الموقع المعادي وهو يضحك؟!
إذا لم يقدر الشخص أن يفهم الحسين عليه السلام فلن يفهم هذه القصة، الموت هنا أيضاً،
يتحول إلى أكثر من أمر لا نخشاه؛ أي أن هناك مرحلة نخاف فيها من الموت، ومرحلة لا
نخاف فيها من الموت، ومرحلة ثالثة نحب فيها الموت ونعشقه قتلاً في سبيل الله عز وجل.
هذه مدرسة كربلاء.
* السلاح الأمضى.. حب الشهادة
من وحي كل هذه الثقافة وهذه المفاهيم وهذه الروح يبرز السؤال التالي: ما هو السلاح
القوي الذي نملكه؟
السلاح القوي الذي نملكه والذي هزمنا به أعداءنا وأساطيل الغرب، والذي فرضنا به
احترامنا على العالم، والذي أسقطنا به المؤامرات وواجهنا به التحديات، والذي ما زال
يمنع هذا العدو العنصري المتصهْيِن من ابتلاع أرضنا وخيراتنا وإذلال أهلنا... هو:
سلاح الشهادة.. لأن في مسيرتنا شهداء، وفي قادتنا شهداء نستطيع أن نستمر بفيضهم،
بدفعهم، بأنفاسهم، بأرواحهم المعطاءة، بوصاياهم، بابتساماتهم، بأصواتهم التي مازالت
تتردد في آذاننا.. السلاح الذي نملكه هو أننا في لبنان، في قلب هذه المسيرة، نملك
رجالاً حاضرين للشهادة، ونساءً حاضرات للشهادة، يعشقون الشهادة كما علمهم علي بن
أبي طالب عليه السلام.
ويحق لنا أن نسأل: بماذا نقاتل هذا العدو؟ أين هو التوازن
العسكري، توازن العدة والعتاد والعديد والتقنية والخبرة والمال؟ لا يوجد هناك مجال
للمقارنة، ولكن السلاح الذي نملكه نحن ولا يملكه العدو، ولا يمكن أن يملكه، هو هذا
الحب للشهادة النابع من التتلمذ في مدرسة سيد الشهداء عليه السلام. أقول لكم
في النهاية: هذا السلاح يجب أن نحتفظ به، وليس بوسعنا تحقيق ذلك إذا أقبلنا على
الدنيا وزخارفها وشهواتها وحطامها، لا تجتمع الدنيا والآخرة في قلب رجل.. إذا أردنا
أن نحتفظ بهذا السلاح يجب علينا أن نبتعد عن مظاهر الفساد داخل بيوتنا وعلى شاشات
التلفزة وعبر المذياع، وفيما ندخله إلى بيوتنا من مجلات وصحف، يجب أن نتجنب كل
مجالس اللهو المحرَّم، وأن نتعلم كيف أن الدنيا هي مزرعة الآخرة، وأنها ممر ومعبر
وجسر ليس أكثر. وعلينا أن نفكر بالآخرة دائماً، وبما أعده الله للشهداء.
كل
إنسان في الآخرة، يقال له: تعال لنعيدك إلى الدنيا ونعطيك كل ملكها فلا يقبل أبداً،
لكن الحديث يقول: إلا الشهيد فهو يقبل أن يعود؛ لا من أجل ملكها، ولكن كي يقتل في
سبيل الله مرة ثانية(9)! يجب أن نتعلم كيف نفكر بآخرتنا ، ليس بالمظاهر التي
قد نتبعها هنا وهناك؛ لا بل بالعقل والقلب، وتوجه الروح وإقبال القلب على الآخرة،
وبذلك يمكن أن نملك هذا السلاح. اقرأوا وصايا الشهداء وتعلموا منها، فهذا هو
سبيل الله؛ فإذا بقينا هكذا، وبقيت كربلاء حاضرة في العقل والقلب والدمعة، وبقي
الحسين يملأ منا العيون وزينب تملأ منا العيون... نعم، إذا بقينا في هذا الجو، فسوف
يبقى هذا السلاح وسوف ننتصر به ونهزم به العدو ونعجزه، ونعيد به لأمتنا العزة
والكرامة.
سلاح الشهادة، يمكن لكل واحد أن يمتلكه، لنصبح بمفهوم الشهادة
الأقوياء الذين يصنعون التاريخ، لا الضعفاء الذين ينساهم التاريخ ويرفضهم الله
ويخسرون بذلك الدنيا والآخرة. أسأل الله لي ولكم التوفيق لما نحب من طاعته
والجهاد في سبيل الله، والقتال والقتل مع وليه، وأن يحسن لنا العواقب.
(*) مقتطف من كلمة لسماحة السيد حسن نصرالله ألقاها في 4 محرم 1418هــ.
(1) نهج
البلاغة، الخطبة: 123.
(2) نهج البلاغة، الخطبة: 123.
(3) كنز العمال، ج4، ح11126.
(4) بحار الأنوار، ج97، ص40.
(5) مقتل الحسين عليه السلام للمقرم، ص193.
(6) نهج البلاغة، الخطبة: 82.
(7) مقتل الحسين عليه السلام للمقرم، ص194.
(8) بحار الأنوار، ج44، ص366.
(9) بحار الأنوار، ج44، ص366.