تكثر الاجتهادات الفكرية وتتنوع، تبعاً للمشارب الثقافية،
والمؤثرات التربوية، والأعراف والتقاليد، ومنظومة القيم الحاكمة على مختلف مفاصل
الحياة. ومع اتساع مروحة المعايير وتنوع المقاييس، يمكن رصد الاختلافات الكثيرة،
والتباينات التي تفرز اتجاهات النقد وتحدّد مساراتها. لكن، الثابت عندنا نحن
المتشرعة أن النقد الفكري الصادر من جهة ما ينبغي أن يكون منسجماً مع طبيعة وشخصية
صاحبه، وإذا كان النقد ثقافياً أيضاً، فينبغي أن يكون بناؤه على منطلقات يظهر من
صاحبها أنه يؤمن بها وأسس حياته، أو - على الأقل - ظهر في ما سبق أنه يعيش حياته في
مواقفها المختلفة على أساسها.
الغريب أن ترى بعض الناس ينشطون في التنقيب عن المآخذ
في سلوك بعض الجهات لتظهيرها وتوجيه النقد السلبي اتجاهها، وبناء - أحياناً كثيرة -
الدعاية التحريضية على أساس تلك المآخذ المدعاة، ،يجهد هؤلاء في نبش ما يعتقدونه
مثالب أو مساوئ أو شبهات، في شخصية، أو سلوك، أو مواقف الغريم. الغريب أن هذا البعض
إذا ما نظرت إليه وتفحّصت حاله وسيرته، وأفكاره ومواقفه، وتصرفاته وسلوكياته، تجده
مثقلاً بتلك الخصال، وتجد سيرته تعجّ بتلك المآخذ وهاتيك "المعايب". أنت تكره الشر
في غيرك، فهذا حسن، ولكن الأحسن منه أن تكرهه فيك. وإذا كان ما في غيرك مما تعيبه
عليه موجوداً فيك، فالأحرى بك أن تكفّ عن تناول الآخر قبل أن تتخلّص أنت مما تعيب
غيرك عليه، فالصحيح أن "تقلع الشر من صدر أخيك بقلعه من صدرك".
هذا إذا كان ما
يذكره هذا البعض موجوداً في أخيه في دينه، أو في نظيره من خلق الله، أما إذا كان ما
يذكره بلا أساس، وليس له من الحقيقة أيُّ حظٍّ، فإن ذلك أدعى إلى الغرابة وأبعثُ
على الدهشة. بل إن ما ذكرنا من النقد وذم الخصال وذكر المثالب، عندما لا يكون له
أساس في الجهة التي يوجَّه إليها النقد، بل كانت هذه الجهة من أصحاب السيرة الناصعة
والتاريخ المشرّف؛ وأكثر من ذلك، إذا كانت صاحبة الفضل على الأقران وعلى الناقدين
أنفسهم، وينال فضلها الأقربون والأبعدون، فإن الذامَّ والناقِدَ المتَّهم يصبح في
موقع التهمة والفرية، ويصبح من الواجب التصدي له والذود عن أصحاب الفضل على الوطن
وعلى الأمة، المصاديق الصارخة لعباد الله المفضلين على عيال الله. إذا كان المنتقَدُ
من أصحاب الهمم العالية والنفوس الأبية، الذين يؤثرون مصارع الكرام؛ وكان المنتقِدُ
من القاعدين والمتخلفين عن مجاهدة أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، وكان هذا من
المتلبسين بلباس أهل الدين الصلاح، ومن الذين يشغلون مُجالسهم في مجالسهم بالتأليب
على الصالحين، وإيغار الصدور على حَمَلَةِ راية الجهاد، الذين رفعوا راية الهدى
عالياً ونصبوا بيارق الحق خفاقة في سماء الأمة؛ إذا كان الأمر كما نصف فإن المنتقد
يصبح حينها - على ما يصف أهل الخبرة والمعرفة - من أهل العقد النفسية والأمراض
القلبية، الذين أكل الحسد عقولهم، فملأ بالحقد والغيظ قلوبهم، فيخرج ما تكنّه
صدورهم على صفحات الجرائد وعلى أعواد المنابر، تحاملاً على الشامخين، ظنّاً منهم أن
الآذان عند الطيبين قد أصاخت السماع لترّهاتهم، وتلقُّفِ أراجيفهم، واحتمال
أباطيلهم..!!
لا والله، إن هذا حشرجات المختنق بحقده، الميِّتِ بغيظه، الذي تخرج
نفثاتُ مكنونه على انسياب مداده الآسن وصرخة اليائس من نيل الأوطار بالنيل من مكانة
الشرفاء وعزة الأحرار.