زينب شمص
وردت هذه العبارة في المقطع الأخير من المناجاة الشعبانية المروية عن الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام. والمتأمّل لأهمية هذه العبارة وشمولها وعمقها يبحث في وجدانه عن لحظة الانقطاع تلك.
فهل نحن كبشر خطّائين، تشرّفنا، في خضمّ غمرات ملذّات الدنيا ولهوها، بلحظة أو برهة من الانقطاع إلى الله والخلوّ بأنوار عظمته وملكوته؟ وإن لم نكن قد حصلنا على ذلك الشرف فما هي السبل لنكون ربّانيين لنصل إلى مرحلة العبودية الخالصة التي يجب أن نكون عليها؟
*العشق للواحد الأحد
لا شك أنّ هناك نخبة قد وصلت إلى ذلك الكمال في العشق للواحد الأحد والإخلاص في الحب له. وليس بالضرورة أن يكون هؤلاء أنبياء معصومين، فإن مثل هؤلاء كانوا قبل أن يُكلّفوا بالرسالة يسلكون درب الحكمة والصبر والتأمل والبحث عن هذا الخالق العظيم. فإبراهيم عليه السلام عشق هذا الإله الذي فاقت قدرته كلّ قدرات المستكبرين، وهذا نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتأمل في الغار منفرداً تقلّبه أجنحة العشق لربّ لا يُصنع من حجر ولا من تمر، يؤكل عند الجوع!!
*أصنام أمام طريق الكمال
لكن، هؤلاء كان عندهم ذلك الإيمان وطهارة القلب والفطرة الطيبة والصفاء الباطني، فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان معروفاً قبل البعثة بخُلُقه العظيم وصدق حديثه وأداء أمانته وتواضعه...
لكننا كبشر تختلج في نفوسنا أصنام تقف حاجزاً أمام طريق الكمال. وأوّل تلك الأصنام الهوى، وطاعة النفس، وطول الأمل الذي يؤدّي إلى الغفلة وقسوة القلب والابتعاد عن التعلّق بالملكوت الإلهي ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف: 28).
*الموت: القاهر الأكبر
لذلك يجب الاستمرار في ترويض النّفس وكبح جماحها وتعويدها على الانصياع ومخالفتها عبر التبصّر والتعلّم، والتواضع والإيمان والاحتكام إلى أحكام الدين. فالإنسان هو المخلوق الذي كرّمه الله عزّ وجلّ على سائر مخلوقاته، وهذه الخصوصيّة يجب أن تجعله يتعلق بروحه وعقله بعزّ الله في مقابل أن يحتقر نفسه ويشعر بذلّها وضعفها. لا أن يتكبّر ويتعالى على غيره. فما الموت سوى القاهر الأكبر لصنم الكِبَر.
فالمتأمل بحالة وكيفية خلق الإنسان يدرك حقيقة فقره وعجزه؛ فالإنسان يتدرج من نطفة إلى طفل عاجزٍ يحتاج إلى غيره ليكبر. وهذه أيامه تمر أمام عينيه وتضيع بين يديه دون أن تكون له القدرة على إعادة الزمن إلى الوراء والتمتع بالشباب الدائم، ويتعرض لكافّة أنواع البلايا والأمراض دونما حول ولا قوة وإن استمر عمره الطويل فسوف تلاقيه الشيخوخة وترافقه الآلام والأسقام وفقدان السمع أو البصر أو حتى العقل إلى أن يتحوّل إلى جثّة هامدة تنقل إلى مضجعها الأخير وحيدةً.
*السعادة في العبودية
إنّ وصول الإنسان إلى تلك اللحظة حيث يكون وحيداً بين يدى خالقه وفي رهبة الموت التي تسحق كل تعاليه وكبره، تجعله يعي حقيقة الحياة ويتمنّى أن يعود إلى دار الدنيا ليكون شاكراً أو مطيعاً وعابداً.
لكن لحظة الانقطاع إلى الله والسعادة في العبودية تبدأ بالنّفس من أعماقها. فعلينا تطهيرها بنار الندامة والتوبة من الذنوب وتكسير أصنام الكبر والحسد والرذيلة والغفلة والأنانية، وصبغ القلب بالصفات الربانية لأن الإنسان خليفة الله على الأرض ويجب أن يكون خير ممثل له، وتلازم مع شخصيته القيم السامية كالصدق الذي هو أشرف الفضائل وأساس الإيمان ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ*لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ﴾(الزمر: 33 - 34).
يقول الإمام الخميني قدس سره: "... ونحن... ما دمنا في حجاب النفس والأنانية فإننا شيطانيون مطرودون من محضر الرحمن... وما أصعب تحطيم هذا الصنم الذي يُعدّ أم الأصنام، فنحن ما دمنا خاضعين له مطيعين لأوامره لا نكون خاضعين لله جلّ وعلا ولا مطيعين لأوامره... وما لم يُحطم هذا الصنم فإن الحجب الظلمانية لن تتمزق ولن تُزال..."1.
1- الوصايا العرفانية للإمام الخميني قدس سره.