الشيخ مرتضى المطهري
إنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة
الأطهار عليهم السلام كانوا قادة مجاهدين في سبيل الله، في كلا شقّي الجهاد: جهاد
الأعداء وجهاد النفس. ومن سنن الله في خلقه للإنسان، أنّه جعلَ بلوغه للدرجات
المعنويّة وتكامله مرهونَين باجتياز دورات تربويّة خاصّة، كالزواج الذي يشجّع عليه
الإسلام ويعتبره مقدّساً؛ وذلك لأنّ الأثر التربويّ الذي يحقّقه كلّ من الرجل
والمرأة من خلال الزواج لا يمكن تعويضه بالعبادة ومجاهدة النفس، وسيبقى هناك نقص في
تكامل روحيهما لو ظلّا عازبَين. وكذا الجهاد، فهو من العوامل التي تساهم في تربية
الإنسان، ولا يمكن لعامل آخر أن يحلّ محلّه. وكلٌّ من جهاد النفس وجهاد الأعداء له
موقعه ولا يحلّ الآخر مكانه، بل قد وضعهما الإسلام في صفّ واحد، واعتبرهما من عوامل
التربية الإسلامية.
* الظروف الموضوعية للجهاد
وهنا يبرز سؤالٌ مهمٌّ هو: إنّ الظروف الموضوعية التي يعيشها الفرد المسلم متباينة،
وقد لا يقتضي بعضها جهاد أعداء الله، فماذا سيكون موقفه حينها، خصوصاً بعد أن عرفنا
الأثر التربويّ المهمّ للجهاد؟
يجيب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بأنّ واجب الفرد المسلم هو أن يكون في
قلبه عزمٌ صادقٌ ونيّةٌ مخلصةٌ على جهاد أعداء الله، في أيّ وقت تتطلّب الظروف
الموضوعيّة ذلك. ومع توافر النيّة المخلصة والعزم الصادق لديه يصل إلى درجة
المجاهدين حقاً. وهذا يمكن استفادته من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يغزُ
ولم يحدِّث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق"(1).
والقرآن الكريم يقول: ﴿لَاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى
وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء:
95).
ونلاحظ من الآية الكريمة أنّه تعالى لا يُدخل المتخلّفين ضمن حديثه عن القاعدين،
فهم غير منظور إليهم هنا، وإنّما حديثه هنا عن القاعدين بعذر شرعي (هو وجود من بهم
الكفاية من المجاهدين)، فيقول: إنّ هؤلاء المجاهدين هم أعلى درجة وفضلاً وأجراً من
القاعدين بعذر شرعي، ولكن في الوقت نفسه يؤكّد النصّ أنّ هذا التفضيل لا يشمل أولي
الضرر من القاعدين والمعذورين بسبب الأمراض المختلفة التي تعوقهم عن الجهاد. فلا
ينفي القرآن الكريم أنّ لهؤلاء فضلاً، ومن الممكن أن يصلوا إلى درجة المجاهدين، بل
وأن يسبقوا الآخرين في ذلك، لو كان في قلوبهم عزمٌ صادقٌ ونيّةٌ حقيقيّة، بأن لو
زالت عنهم تلك العوائق لذهبوا إلى الجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
قال رجل للإمام عليّ عليه السلام وهو في طريق عودته من صفّين(2): "يا أمير المؤمنين،
إنّ لي أخاً كم تمنيت أن يحضر معنا صفّين في معسكرك، فينال صحبتك". فماذا كان جواب
الإمام عليّ عليه السلام ؟ لقد سأل عليه السلام الرجل عن نيّة أخيه ما هي، وماذا في
قلبه، وعلامَ عزمه، هل كان لديه عذر منعه من الحضور أم لم يكن لديه عذر؟
ثمّ يحدّد الإمام عليه السلام الأجوبة الدقيقة عن تلك الاحتمالات كلّها، فإذا لم
يكن معذوراً ولم يأتِ فعدم مجيئه خير لنا من مجيئه(3)، وإن كان معذوراً وقلبه معنا
وعزمه أن يلحق بنا لو استطاع، فهو معنا، فأجاب الرجل: إنّه كذلك يا أمير المؤمنين،
فأجابه الإمام عليه السلام: "ليس أخوك وحده كان معنا، بل ورجال آخرون ما زالوا
في أرحام أُمّهاتهم، بل وفي أصلاب آبائهم". فهذا حكمٌ ثابتٌ، فكلّ شخص إذا وُجد
وكان في قلبه عزمٌ صادقٌ أنّه لو أدرك الإمام عليّاً عليه السلام في صفّين لنصره،
فهو مع الإمام عليّ عليه السلام ويعتبر من أنصاره وجيشه.
* انتظار الفرج
ماذا يعني انتظار الظهور؟ وماذا يعني نصّ "أفضل الأعمال انتظار الفرج"؟
يتوهّم بعضٌ ويظنّ أنّ "انتظار الفرج" وهو أفضل الأعمال يعني أن ننتظر ظهور إمام
العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف مع جمع من خواصّ أصحابه وأنصاره، فيحاربون أعداء
الإسلام، ويطهّرون الأرض من دنسهم، ويقيمون العدل والأمن في البلاد، ويوفّرون
الرفاه والحريّة بأكمل صورهما، بعد ذلك يقولون لنا: تفضلوا. بعضهم يتوهّم أنّ
انتظار الفرج هو هذا، ويصفونه بأنّه أفضل الأعمال، ولكنّ الانتظار الحقيقيّ للفرج،
هو بانتظارنا ظهور الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف للانخراط في جيشه والقتال تحت
إمرته، حتّى ولو استشهدنا في هذا القتال. الانتظار الحقيقي هو أن يكون أمل الإنسان
كلّه، وكلّ أمانيه حقّاً هو الجهاد في سبيل الله، وليس الانتظار حتّى يأتي الحجّة
عجل الله تعالى فرجه الشريف فتقول له: اذهب أنت وحدك فأنجز كلّ المهام الشاقّة،
وعندما يحين وقت جني الثمار سنأتي نحن. هذا هو منطق أصحاب موسى الذين عندما وصلوا
إلى فلسطين، ورأوا فيها جنداً متأهبين قالوا لموسى:
﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ (المائدة:
24)، اذهب أنت وربك فقاتلا وطهّرا فلسطين من دنس الأعداء، وسنأتي نحن بعد أن
نطمئن إلى أنّه لم يبقَ خطرٌ فيها. إنّ موسى عليه السلام قد سألهم مستنكراً: فما هو
واجبكم إذاً؟ عليكم أنتم أيضاً أن تُخرجوا، من دياركم الغاصب الذي أخرجكم منها.
أمّا أصحاب النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أمثال المقداد، فما كان قولهم
كهذا، وإنّما قالوا: "لقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ،
وأعطيناك مواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك،
فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل
واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غداً"(4).
إذاً، فالانتظار الحقيقي للفرج هو أن يترسّخ في قلوبنا عزمٌ صادقٌ ونيّةٌ
حقيقيّةٌ وأملٌ بأن نوفّق لأن نكون في جيش إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف
فنشارك معه في إصلاح الدّنيا.