سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)
كما كان لإيمان أهل المدينة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتصارهم له،
بركاتٌ دنيويّةٌ عظيمة، كذلك كان لخذلان أهل المدينة ومكّة والكوفة
-وهي المدن الإسلاميّة الأهمّ، فيما كانت دمشق قد أصبحت عاصمة الدولة الأمويّة-
تبعات ومصائب حلّت بتلك المدن. وفي عرضنا لما حلّ بتلك المدن، سوف نتناول الحدث
بالاعتماد على المسلّمات التاريخية القطعيّة عند المسلمين. وإليكم تفصيل ذلك.
* استباحة المدينة
1- إخراج بني أميّة من المدينة
في أواخر سنة 63 للهجرة؛ أي بعد عامين فقط على استشهاد الإمام الحسين عليه السلام،
حدث إشكال في المدينة، فأخرج أهلُها أو احتجزوا الوالي المعيّن من قبل يزيد، وجماعة
بني أميّة الموجودين في المدينة المنورة، وبينهم مروان بن الحكم. فأرسل هؤلاء كتاباً
إلى يزيد، وأخبروه بما جرى معهم وعليهم.
2- تنصُّل ابن زياد من مهاجمة المدينة
فأرسل يزيد بطلب عبيد الله بن زياد، وأمَره بتشكيل جيش والذهاب به إلى المدينة
لتأديب أهلها، والسير بعد ذلك نحو مكّة، إذ كان عبد الله بن الزبير حينها قد استولى
على مكّة، وأعلن العصيان على يزيد بن معاوية. وهنا لا بدّ من ملاحظة جواب عبيد الله
بن زياد؛ فقد جاء في تاريخ الطبريّ، الجزء الرابع: "كتب يزيد إلى ابن مرجانة [أي
عبيد الله بن زياد] أنِ اغزُ ابن الزبير، فقال عبيد الله بن زياد: لا أجمعهما
للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله وأغزو البيت؟!"(1). وهنا، من المثير للدهشة
أن ابن زياد لم يعد قادراً على تحمّل ارتكاب جريمة ثانية تُضاف إلى تلك الجريمة
التاريخيّة الاستثنائيّة التي حدثت في كربلاء.
3- مسلم بن عقبة قائد الهجوم
وبحسب ما تذكر كتب التاريخ، فقد اختار يزيد مسلمَ بن عُقْبة لقيادة الجيش المؤلف من
اثني عشر ألف فارس، وأمره أن يذهب أولاً إلى المدينة. وقد خطب يزيد في هذا الجيش،
وقال لهم: "إذا انتصرتم في المدينة، فالمدينة مباحة لكم ثلاثة أيّام"(2). فسار مسلم
بن عقبة إلى المدينة، ووصل إليها في أواخر ذي الحجّة سنة 63 للهجرة.
4- حصار المدينة واستباحتها
وبعد أن وصل مسلم بن عقبة المدينةَ حاصرها، ودخلها وسيطر عليها. بعد ذلك، أباح مسلم
بن عقبة المدينة لجيشه البالغ 12 ألف فارس ثلاثةَ أيّام، بناءً على قرار يزيد. وهنا
تحضرنا صورة المدينة سنة 63 للهجرة، بحجمها الصغير آنذاك، في ظلّ وجود 12 ألف فارس
في الطرقات، لهم أن يقتلوا من يشاؤون، وينهبوا أموال أهل المدينة المباحة لهم،
ويغتصبوا النساء، سواء المتزوجة منهنّ، أو العازبة، أو الأرملة، ويعتدوا على
الأعراض. كما أنّهم دخلوا مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بخيولهم وبغالهم
ودوابّهم، ودنّسوا المسجد وأهانوه، وهتكوا حرمته وأهانوا قبر رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.
5- قتل من يرفض العبوديّة ليزيد
بعد هذه الحادثة الأليمة، جمع مسلم بن عقبة مَن بقي على قيد الحياة من رجال المدينة،
ووجوهها، ونُخبها، وخواصّها وعوامّها، ودعاهم إليه -وهذه المسألة مهمّة جدّاً، وعلى
الناس أن يعرفوها ويعوها جيّداً؛ لأنّها ليست مجرّد مسألة تاريخيّة وانتهت، بل هي
تاريخ يتكرّر- وقال لهم: عليكم أن تبايعوا يزيد بن معاوية من جديد، فأتى شخص إليه
وقال له: حسناً أبايعك ليزيد على كتاب الله وسنّة رسوله، فلم يقبل منه، فقتله وقطع
رأسه، وأتى آخر فقال له: أبايعك على سنّة الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين، فلم
يقبل منه أيضاً، وقطع رأسه. لماذا؟ لأنّ مسلم بن عقبة يريد من الناس أن يبايعوا
يزيداً على أنّهم عبيد له، وأنّه يملكهم، ويملك أولادهم ونساءهم وأموالهم... وكلّ
مَن يرفض أن يبايع يقطع رأسه. وقد ورد في الكتب التاريخيّة مشاهد للجثث والرؤوس
المقطوعة والدماء التي تسيل في الطرقات(3).
6- حصيلة المجزرة
تورد كتب التاريخ أنّ حصيلة هذه المجزرة كانت 10 آلاف رجل وامرأة من المهاجرين
وبنات المهاجرين والأنصار والمسلمين وأولادهم، وسبعمائة شهيد من الخواصّ والعلماء
والزعماء وكبار الوجهاء. كما أنّ ألف امرأة من أهل المدينة ولَدَت من غير زوج بعد
تسعة أشهر، وهذا لا يعني أن اللّاتي اغتُصبن كنّ ألفاً فقط، بل اللّاتي حملن وولدنَ
منهنّ كنّ ألفاً فقط.
بعد هذه المجزرة، أنهى مسلم بن عقبة مهمّته، وأخذ البيعة، ونُصِّب والياً من قبل
يزيد بن معاوية، وسار بجيشه إلى مكّة. ومن هنا، لا نستغرب عندما نعلم أنّ "داعش"
قامت بعملية سبايكر في العراق(4)، وأنّها ذبحت نحو 1700 شابٍ.
* الكعبة تُحرق وتُهدم
بعد المدينة، سار مسلم بن عقبة إلى مكّة. ولأنّه كان مريضاً وكبيراً في السنّ،
توفّي في الطريق.
ومن اللّافت في هذا المقام أنّ نشير إلى أنّ مسلم بن عقبة كان يعتقد أنّه يتقرّب
إلى الله سبحانه وتعالى بما ألحق بالمدينة وأهلها. ولنا هنا أن نتصور هذا الفهم
وهذه العقلية بأن يتقرّب رجل إلى الله بما فعله بمسجد النبيّ وبحرمه صلى الله عليه
وآله وسلم وبالمهاجرين والأنصار والصحابة وأبنائهم وبناتهم.
بعد موت مسلم بن عقبة، تولّى قيادة الجيش الحصينُ بن نُمير، الذي كان شريكاً في قتل
الحسين عليه السلام.
ذهب الحصين بن نُمير إلى مكّة المكرمة -حرم الله وحرم رسوله، وكعبة المسلمين
وقبلتهم-، فحاصرها أشهراً عدّة، وقصفها بالمنجنيق، وأحرق الكعبة وهدمها، وقصف بيوت
أهل مكّة، فقتل رجالهم ونساءهم. لكن مكّة بقيت صامدة ولم تنهزم رغم ذلك.
وبعد يزيد بن معاوية، نشبت خلافات في الشام، فانسحب على إثرها جيش الحُصَين بن
نُمَير(5).
- مكّة تحت الحصار مجدّداً
بعد سنوات قليلة من موت يزيد، وبعد أن آل الحكم والسلطة إلى عبد الملك بن مروان،
أرسل جيشاً إلى مكّة المكرّمة بقيادة الحجّاج بن يوسف الثقفي، فحاصر مكّة، وحرقها
بالنار، وضرب كعبتها بالمنجنيق، وقتل أهلها، وأعلن السلطة الأمويّة عليها.
* الكوفة تذوق المرارة نفسها
أمّا مصير الكوفة وما حلّ بأهلها فلم يكن أحسن حالاً من غيرها، بعد ما فعله عبيد
الله بن زياد بأهلها في السنوات التي بقي فيها، وما جرى على قتلة الإمام الحسين
عليه السلام فيها على يد المختار الثقفي الذي ثأر لدماء أهل البيت
عليهم السلام. كما يكفي الكوفةَ أن الحجّاج بن يوسف
الثقفي حكمها في زمن عبد الملك بن مروان سنواتٍ طويلة. والظُلم الذي مارسه الحجّاج
بن يوسف الثقفي كان عظيماً، بحيث يتعجّب الإنسان كيف كان يقتل، ولأي سبب يقتل، وكيف
كان يصادر الأموال، ويزجّ الناس في السجون، وكيف كانت أحوال السجون، حيث ورد في كتب
التاريخ أنّه حينما مات الحجّاج، دخل الناس إلى سجونه، فوجدوا عشرات الآلاف من
الرجال والنساء عراة، في سجون لا سقف لها، لا تقيهم حرّ الشمس ولا برد الشتاء!
* ماذا لو نصروا الحسين عليه السلام؟
إذاً، بعد هذا العرض للنتائج الدنيويّة لخذلان الإمام الحسين عليه السلام، لنا أن
نسأل: لو أنّ أهل المدينة نصروا الحسين عليه السلام كما نصروا جدّه صلى الله عليه
وآله وسلم، ولو أنّ أهل مكّة نصروا الحسين عليه السلام، ولو أنّ أهل الكوفة وَفَوا
ببيعتهم للحسين عليه السلام، كيف سيكون واقع الأمّة؟ ألم يكن ممكناً حينئذٍ للحسين
عليه السلام أن يغيّر هذا الواقع السيّئ؟ لقد كان النصر في متناول الحسين عليه
السلام، لو وقفوا معه، ونصروه؛ إذ لم يكن يزيد شخصيّة مقبولة في الأمّة، بل كان
مفروضاً عليها بقوة السيف، والإرهاب، والترغيب، والترهيب. لقد كان لدى الأمّة
استعدادٌ كبيرٌ جدّاً، كان يمكن له أن ينمو ويكبر لو توفّرت له قاعدة الانطلاق،
ولبقيت المدينة في عزّها، ولما أحرقت الكعبة وهدّمت، ولما جرى على أهل الكوفة ما
جرى من مظالم تاريخية، ولما حصل ما حصل من مظالم في التاريخ الإسلاميّ.
نعم، كان يمكن لحياة المسلمين أن تتبدّل، وأن تتغيّر دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً
وأمنيّاً واجتماعيّاً، ويتحسّن موقعهم، وينعموا بالسلام الداخليّ، وأن تبرز قوّتهم
على صعيد العالم، لو مُكِّن الإمام الحسين عليه السلام من أن يصلح في أمّة جدّه،
وأن يقيم دولة جدّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لكن ذلك لم يحصل.
وفي الختام، من خلال هذا العرض المتقدِّم، أصبح من الواضح لنا -بمعزل عن الحساب
الأخرويّ وما يتعلّق به من ثواب وعقاب- أنّ ثمّة آثاراً دنيويّة ناجمة عن مواقفنا
وسلوكنا تجاه الأحداث التي نعيشها، سواء عندما ننصر الحقّ ونؤدّي تكليفنا وواجبنا،
أو عندما نتخلّف ونتخلّى عن الحقّ ولا نقوم بتكليفنا وواجبنا. وهنا، علينا الالتفات
إلى أنّ هذه النتائج سوف تؤثّر على حياتنا وحياة عائلاتنا وشعوبنا وأمّتنا، وعلى
مقدّساتنا.
(1) تاريخ الطبريّ، محمّد بن جرير الطبريّ، ج 4، ص 371.
(2) حياة الحيوان الكبرى، كمال الدين الدُميري (ت 808 هـ)، ج 1، ص 93.
(3) تاريخ خليفة بن خياط العصفريّ (ت 240هـ)، ص183.
(4) هي مجزرة جرت بعد أسر طلّاب القوة الجويّة في قاعدة سبايكر الجويّة في 12
حزيران/يونيو 2014م، حيث أسروا (2000-2200) طالب في القوة الجويّة العراقيّة
وقادوهم إلى القصور الرئاسيّة في تكريت، وقاموا بقتلهم هناك، وفي مناطق أخرى رمياً
بالرصاص، ودفنوا بعضاً منهم وهم أحياء. وقد نجح بعض الطلاب العراقيين في الهروب من
المجزرة.
(5) الأخبار الطوال، ابن قتيبة الدينوري، ص268.