الشيخ محمد يزبك
حداثة، انقلاب على الماضي، تطوّر تكنولوجي، شعار "العولمة
هي البديل"، لا تقدّم ولا رقي إلا بإنكار الغيب وحججه، والتحلّل من كلِّ قِيَمه
وشرائعه، لا قدسيَّة لا مقدّس، ثقافة أرادوها أن لا تبقى مرتبطة بعقيدة إيمانية.
قطعوا الطريق وأقاموا الحواجز. حريّة، ديموقراطية، حقوق الإنسان في مواجهة: أصولية،
تطرّف، إرهاب. شعارات وضعت العالم كله على كف عفريت، وإبليس يريد الانتقام إذا ما
تسنّى له. عالم غارق بأوهام وسراب من نفثاته. يقابل ذلك ضرورة بحث عن أهميّة معرفة
الإمام عليه السلام، الحجة الإلهية التي تحدّث عنها القرآن الكريم
﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾(الأنعام:
149).
لا حجة لأدعياء الحضارة وقطّاع الطرق. روي عن إمامنا الصادق عليه السلام أنه
قال: "أوصى الله عزّ وجل إلى داود عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالماً مفتوناً
بالدنيا، فيصدّك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطّاع طريقٍ عبادي المريدين، إن أدنى ما
أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم"(1).
* الحجة أمر إلهي
إنّ الله عزّ وجل لم يترك العباد من دون حجّة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام
أنه قال: "الحجّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق"(2). وروي عن الإمام موسى بن
جعفر الكاظم عليه السلام أنَّه قال: "إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجّة
باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول"(3). وسُئل
الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير قوله تعالى
﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾
فقال عليه السلام: "إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنت عالماً؟ فإن
قال: نعم، قال له: أفلا عملت بما علمت؟ وإن قال: كنت جاهلاً، قال له: أفلا تعلمت
حتى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة"(4). واحتجّ الله تعالى على عباده بما آتاهم
وما عرّفهم، قال الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى:
﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا
بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾(التوبة:
115). قال عليه السلام: حتى يعرّفهم ما يرضيه وما يسخطه(5).
* المعرفة النظرية
الإمامة (الحجّة) للإنسان، هي قيادة لعقل الإنسان، وإنسانيته بعقله وفكره، في
الحديث: "دعامة الإنسان العقل"(6). فالإمامة لا تنفك عن التصديق بضرورة نصب الإمام
من الله تعالى، قال عز من قائل:
﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن
ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(البقرة:
124). الإمامة مستمرَّة، وممتدَّة في الوجود، سنّة إلهية مطّردة، عهد الله
لا يناله الظالم. وليست الإمامة عهداً بين الإمام والناس، بل هي مقام له طابع إلهي،
اختياراً واجتباءً وتنصيباً. ومن قَبِلَ الإمام عمل بما أمر الله تعالى لا بما يأمر
الناس. وقد بيَّن ذلك الإمام الصادق عليه السلام في حديثه مستنداً إلى مضامين
القرآن قائلاً: "إنَّ الأئمة في كتاب الله عزَّ وجل إمامان: قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا﴾(الأنبياء:73)،
لا بأمر الناس، ويقدِّمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، وقال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ﴾
(القصص:41) يقدمون أمرهم قبل أمر الله تعالى، وحكمهم قبل حكم الله تعالى،
ويأخذون بأهوائهم، خلاف ما في كتاب الله عزَّ وجلّ"(7). وقال تعالى:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾(الأنبياء:
72). فالإمام هادٍ يهدي بأمر ملكوتي يصاحبه. فالإمامة بحسب الباطن، نحو
ولاية الناس في أعمالهم، وهدايتها إيصالها إياهم إلى المطلوب، بأمر الله دون مجرد
إراءة الطريق(8)، هداية بأمر الله تعالى على حد قوله تعالى:
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾
(يس: 82). وقوله تعالى
﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ
كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾
(القمر: 50). هداية الإمام هداية تكوينيَّة بأمر الله تعالى ونفوذ إلى
النفوس المستعدَّة بقدرة الله، فلا يتخلَّف المراد عن الإرادة والنفوذ، ويسوقها إلى
الأهداف التربويَّة والإنسانية العالية.
* المعرفة العملية
قاربنا الإمامة نظريّاً بمعناها العام، ونحاول أن نحدِّدها عملياً، لنلتزم بإمامة
من فرض الله تعالى إمامته، فإنَّ بيعة الإمام حتمية، لتجنّب ميتة الجاهلية، وقد
وردت روايات عديدة بمضامين مختلفة تحتِّم ذلك، منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمد
الصادق عليه السلام: "لم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجّة لله فيها، ظاهر مشهور
أو غائب مستور"(9). وروي عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "من مات ولا
بيعة عليه مات ميتة جاهلية"(10).
* تركة رسول الله صلى الله عليه وآله
وفي المقام يحدِّد حديث الثقلين المتواتر الأئمَّة الذين فرض الله تعالى طاعتهم
وولايتهم. والحديث على ما رواه زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه
وآله من حجّة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقمن فقال صلى الله عليه وآله: "كأني
قد دُعيت فأجبت، إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله، وعترتي،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض"(11). تركة رسول
الله وميراثه: الكتاب والعترة، كتاب صامت، وكتاب ناطق. عترة هي عدل الكتاب بكل
الخصائص، الكتاب:
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ﴾
(فصلت: 42)، كذلك العترة شريكة بالعصمة. الكتاب دائم ومستمر، حتى يرث الله
الأرض ومن عليها، كذلك العترة، لن يتفرقا حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه
وآله الحوض. كتاب تجلى فيه الخالق لخلقه، كذلك عترة هي محال معرفة الله، وتجليات
إشراقات أنوار هدايته لخلقه، وفي اتباعهما (الكتاب والعترة) عصمة من الضلالة كما
ورد في بعض صيغ حديث الثقلين: "لن تضلوا إن اتبعتوهما".
* روايات عن الغيبة
وروى جابر بن سمرة: قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول "يكون إثنا عشر أميراً
فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال كلهم من قريش"(12). فالأئمة الإثنا عشر هم
على ما صرح النبي الأكرم صلى الله عليه وآله:
"علي والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر
وموسى وعلي والحسن ومحمد". هؤلاء هم أئمة الهدى عليهم السلام. وقد تحدث النبي صلى
الله عليه وآله والأئمة عن الإمام الثاني عشر وغيبته تمهيداً وإعداداً للناس لتقبّل
تلك الغيبة وعدم التزلزل. وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
"المهدي من
ولدي تكون له غيبة وحيرة تضل فيها الأمم يأتي، بذخيرة الأنبياء عليهم السلام
فيملؤها عدلاً وقسطاً، كما ملئت جوراً وظلماً"(13).
(1) علل الشرايع، الشيخ الصدوق، ج2، 394/12.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج1، 1/177/4.
(3) تفسير نور الثقلين: ج1، ص775.
(4) تفسير نور الثقلين، ج1، ص774.
(5) الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص163.
(6) علل الشرائع، ج1، ص103.
(7) الكافي، المجلد الأول، ص168.
(8) تفسير الميزان، ج1، ص272.
(9) أمالي الصدوق، 157/15.
(10) كنز العمال، 463/4.
(11) المستدرك على الصحيحين، ج3، ص109.
(12) صحيح البخاري، ج8، ص127.
(13) بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج51، ص72.